محمد الأشعري وزير وكاتب يطرح الأسئلة المحيّرة في أصيلة

أثارت التصريحات الأخيرة للشاعر والسياسي ووزير الثقافة الأسبق محمد الأشعري حول تضييع الإسلاميين لعقد من الزمن من عمر التنمية على المغاربة الكثير من الجدل، فقد قال في حوار أجري معه في أكتوبر الماضي إنه من المؤكد أن سقوط العدالة والتنمية في الانتخابات لم يكن فقط رقما انتخابيا، بل هو مسار سياسي على امتداد 10 سنوات من حكم الـ”بي.جي.دي” (حزب العدالة والتنمية)، وغياب الحيوية والابتكار وتعطيل الدستور المتقدم نسبيا وعدم الاعتماد عليه، فضلا عن ضعف المشاريع الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وأضاف الأشعري “المغاربة اقتنعوا بأن الإسلاميين لا يدركون كيف يدبّرون، كما عرفوا أن الخطاب الأخلاقي ونظافة اليد ومحاربة الفساد والعفاريت والتماسيح أمور فارغة؛ فالأساس هو إنتاج التطور”.
وقد لا تتقاطع مجالات السياسة والشعر في الكلمة والقافية لكن لطالما تم استخدام الأدب بشكل عام للتحدث عن قضايا مهمة بطريقة تعبر عن مشاعر الظلم لدى المؤلف، إذ أنه لا يوجد شيء مثل القصيدة المصممة بشكل متطور لإيقاظ الجماهير وإيصال صوتهم بقوة العاطفة الشعرية التي تختلف من قافية محسوبة إلى نثر غير مقيد وموقف سياسي واضح.
وعلى الرغم من كل ما ترسب في الحياة العامة من هيمنة للسطحية والظلامية، فالشاعر والسياسي والمسؤول الحكومي يعتبر المنجز الثقافي المغربي بكل أجياله وتجاربه مساحة ضوء في مقاومة هذه الترسبات التي تهين المغاربة وتهين المرتكزات التاريخية للثقافة المغربية.
ولا يتردد الأشعري في القول إن أخطر ما يتهدد الكتابة هو أن تصبح مجرد ترجمة للكاتب أو تعبيرا عنه في حياته اليومية وفي خصائصه الإنسانية، فهذا القادم من شمال المغرب يحمل شيئا من الروحانية طبعته به مدينة زرهون مدفن المولى إدريس الأول التي يتسابق إليها الناس للتبرك.
وعي المثقف للسياسة
الأشعري يطرح سؤالا عن عطب الحداثة والسلطة الذي يصير بالنسبة إليه سؤالاً محيراً، متسائلا لماذا هذه العلاقة الوطيدة بين الاستقرار والتحكم في المغرب، فالتحكم هو الذي يؤدي إلى الاستقرار وليس الحرية
سبعون عاما مرت من عمره لكن دون أن تنطفئ داخله جذوة الشعر والإبداع، فقبل أن يلج الكلية ليتخصص في الحقوق غلبت عليه شقوة الشعر لتتلقفه حبال السياسة وتتصيده بعدها الصحافة ليكون رئيس تحرير لعدد من الصحف والملاحق الثقافية والمجلات.
كانت خلاصة تجربته أن المبدع يجب أن يضع مسافة بينه وبين غضبه ومشاعره العابرة وميولاته التعبيرية اليومية أو السائدة، لهذا فهو لا يزال مهووسا بالهم الصحافي الحاضر عند الرجل، حيث جاء محملا بأفكار ونوستالجيا لسفره الدائم في سراديب الصحافة الوطنية. في منتدى أصيلة الثقافي في نسخته الـ42 خريف 2021، حضوره جاء في سياق الأزمة الوجودية التي تمر بها الصحافة والثقافة المغربية والعالمية بكل صورها. فقد كان يطرح موضوع المهنية والالتزام الحزبي عندما كان منخرطا في العمل السياسي الحزبي مناضلا في صفوف حزب الاتحاد الاشتراكي وضمن صحافته من منظور استشرافي للتحولات التي تعتمل في الدولة والمجتمع بتلويناته المتعددة، فهو كان مع فكرة التحضير للمستقبل والخروج تدريجيا من صحافة حزبية ضيقة إلى صحافة مستقلة غير مرتهنة لخط سياسي ملزم.
ميله إلى الكتابة البصرية في الشعر كان بارزا في “صهيل الخيل الجريحة” و”عينان بسعة الحلم” و”سيرة المطر”، و”حكايات صخرية” و”قصائد نائية” و”جمرة قرب عش الكلمات”، وكلها تعبيرات شعرية عن لحظات عاشها الشاعر والسياسي، فترجمها إلى لغة استحسنها العاملون في الميدان، وكان على موعد مع جائزة “الأركانة” العالمية للشعر لعام 2020 التي يقدمها بيت الشعر في المغرب.
وإذا كان هناك من يعتبر أن الجوائز الأدبية عامة تفقد المبدع تلك الجذوة التي تجعله مستمرا في العطاء في وقت يرى آخرون أنها ضرورية للتشجيع والاعتراف بما يقدمه هذا المبدع، فإن الأشعري ركز على أن الجائزة تشكل نوعاً من الانتصار للشعر كاختيار جمالي وكقيم إنسانية.
حضور الهاجس الشعري سواء في كتابته الروائية أو المقالة السياسية دفع النقاد إلى وضع قصيدته على مشرح النقد والتحليل، وكانت النتيجة أن مسارها يجسد أطوار وعي القصيدة المغربية المعاصرة بذاتها وبأزمنتها الشعرية، فقد عملت على تحرير مساحات في اللغة لمصلحة القيم والحياة، وذلك بتحرير هذه المساحات من النزوع التقليدي المحافظ الذي يشل الحياة بشل اللغة وتقليص مناطق مجهولها، وهو يصر على أن الكاتب يكتب القصة والرواية والشعر والمقالة، وغير مطلوب منه أن يدلي بجواز السفر للانتقال من جنس إلى آخر أو فيزا من الرواية إلى الشعر.
ولم يكتف هؤلاء بما قيل، بل ذهبوا إلى أن قصيدة الأشعري ظلت وفية لما يوسع أفق الحرية في الكتابة وبالكتابة باعتبار هذه الحرية مقاومة باللغة، ما جعل الانحياز إلى هذا الأفق في منجزه النصي ذا وجوه عديدة منها التصدي بطرائق مختلفة للتقليد ولتضييق الحياة والارتقاء باللغة إلى صفائها الشعري، لكن الذي يحيره هو سؤال التحول والأشياء التي تخلقه، ومشاعر الناس وأفكارهم وعلاقاتهم الاجتماعية وعائلاتهم.
دخول الأشعري مجال السياسة يعود إلى مسار عاشه داخل الحركة التقدمية بالمغرب في مواجهة الاستبداد، فبقي وفيا لقيمه وبلاده
توليه لرئاسة اتحاد كتاب المغرب عام 1989 كان تجربة هامة في حياته المهنية والأدبية شحنته بغير قليل من التجربة والخبرة خلقت نوعا من الألفة بينه كمثقف بميولاته المتحررة من قيود السلطة والتعاطي مع إكراهات المسؤولية التي تتداخل فيها خيوط السياسي والثقافي، ليصبح بعدها بعشر سنوات وزيراً للثقافة في أكثر من حكومة بدءا من حكومة التناوب برئاسة الاشتركي عبدالرحمن اليوسفي.
الكتابة عنده لا تشكل قيدا لا يمكن النفاذ منه من الشعر إلى الرواية والكتابة الروائية والقصة، لكنه مرتبط وجوديا بالشعر الذي بواسطته يستطيع مقاربة دقيقة لتفاصيل الحياة اليومية، فالشعر حكمة يستحضرها بشكل ضمني في الكتابة النثرية دون أن تفلت المقالة الصحافية من هذه المعادلة، فهو لم يكتب مقالات صحافية بمعناها المهني، بل كان النفَس الأدبي حاضرا، فتعدد الكتابة المختلفة بالنسبة إليه يفيد بعضها البعض الآخر.
لا يزال الأشعري منهمكا في إبداعاته الشعرية والروائية وها هو يصدر روايته الجديدة “من خشب وطين”، رواية تقع في 360 صفحة من القطع المتوسط تضعنا في مواجهة صريحة مع أسئلة الحياة الأكثر عمقا، يزيح فيها الكاتب أقنعة كثيرة عن البشر والأشياء والأوهام التي نعيش بها وفي وسطها.
والإبداع الروائي كان بوابة مشرعة على الجائزة العالمية للرواية العربية في العام 2011 عن روايته “القوس والفراشة”، وقبلها مجموعته القصصية “يوم صعب”، ليعود إلى الرواية بـ”جنوب الروح”، ثم “علبة الأسماء” و”العين القديمة” وهذا جهد جبار، فهو يتفق على أن العمل على الرواية والصور وعلى الإبداع والحكي لا يمكن أن يكون عملا سهلا ومستسهلا.
خاض الأشعري مغامرة السرد بنفس شعري، بل تجربته الشعرية تضمنتها أعماله الروائية والقصصية، وشعريته شكلت قاعدة لسرد الوقائع، لغته الشعرية أعطت للنص الروائي قوته وعمقه وغوايته، وهو يقول “أنا أكتب فقط”. وبالنسبة إلى جائزة البوكر العربية، ربما أعطت للنص الروائي فرصة لتتم قراءته بشكل أفضل لا أكثر.
الحرية والمساواة
هناك فرق صارخ بين تقدير الطرق التي تنقل بها لغة الشعر مشاعر الألم والنضال من أجل الحرية والمساواة، وبين مجرد اقتباس سطر واحد خارج السياق لإثارة إعجاب الجمهور، فعدم قدرة السياسيين على المناورة بين هذه الاختلافات هو الذي يؤدي إلى فشل محاولاتهم في دمج الشعر، لهذا يراه العديد من النقاد مخلصا للموقف السياسي إخلاصا بلغ حد التضحية، دون أن يضحي بالتشكيل الشعري لصالح ذلك الموقف السياسي أو الاجتماعي. يعتقد الأشعري جازما أن الرواية عمل سياسي بالرغم من أنها إبداع، ولا توجد رواية غير سياسية، فبهذه الحيلة يواصل الأشعري العمل السياسي من خلال الرواي، ومن الواضح أن الشعر والرواية لهما علاقة قيّمة بالسياسة ولطالما استخدم الشعر السياسي على وجه الخصوص كنوع أدبي يتيح مناقشة مفتوحة وآمنة نسبيًا حول عدم المساواة في المجتمع، أي أنه جزء أساسي من الانخراط في السياسة وتحديات الظلم المؤسسي، ومحاولته كسياسي يقول إنها نجحت في عكس هذه العلاقة باستخدام القول الشعري والفكرة داخل الرواية لتوصيل ما يريد قوله.
السياسي والمواطن
كان الأدب يعمل على الدوام كوسيلة قيّمة للتوسط في ردم الفجوة بين السياسي وحياة ومتطلبات المواطنين، وفي حالة الأشعري فهو قد دخل مجال السياسة بطريقة احترافية من خلال مسار عاشه داخل الحركة التقدمية بالمغرب في مواجهة الاستبداد، وهو يعبر عن عدم ندمه على مسؤوليته لأنه بقي وفيا لأفكاره وذاته وقيمه، وانعكست تجربة الاعتقال السياسي الذي تعرض له على شخوصه في الرواية. لكنه يصرّ على أنه أبعد ذاته من هذا الموضوع، ذكَّر بحياة السجون والأشخاص الموجودين داخلها وقوة المكان القاسي والشرس، والقوة التي تعيش فيها الحياة كذلك، والقدرة على الانخراط في الحياة بالرغم من شراسة المكان، وكتب عن الأشخاص والأماكن وما يحيط بالسجن من أشياء، لكن دون أن يكون جزءا من هذه الكتابة.
حضور الأشعري في منتدى أصيلة الثقافي في نسخته الحالية يأتي في سياق الأزمة الوجودية التي تمر بها الصحافة والثقافة المغربية والعالمية بكل صورها
تجربته في الاعتقال مكنته من أن يرى كيف أن السجين السياسي كائن نبيل محاط بالكثير من العناية، لأنه محاط برفاقه، في حين أن سجين الحق العام هو إنسان عادي في السجن بدون حماية كأنه في غابة كثيفة. يقول “هذا السجين العادي هو الذي أعطيته الأسبقية في الحكي وفي تشكيل الشخصيات وعوالم السجن”، وهو ما اعتبره أكثر من باحث وناقد إخلاصاً في الموقف السياسي بلغ حد التضحية، لكن ليس إلى حد التضحية بالتشكيل الشعري لصالح ذلك الموقف السياسي أو الاجتماعي، ما يعني أن الشرط الجمالي سابق على أي اعتبارات أخرى.
كسياسي وروائي وشاعر يطرح الأشعري سؤالا عن عطب الحداثة والسلطة الذي يصير بالنسبة إليه سؤالاً محيراً حاول استقراءه من خلال محكيات ومسارات الشخصيات التي استدعاها في الرواية، متسائلا لماذا هذه العلاقة الوطيدة بين الاستقرار والتحكم في المغرب، فالتحكم هو الذي يؤدي إلى الاستقرار وليس الحرية؟ مبرزا أن علاقة التحكم هذه ليست مرتبطة فقط بالبنية السلطوية بل بكافة البنيات الثقافية والحزبية والمؤسسية، كما لو أن النزعة التحكمية عملة رائجة على مستويات متعددة في المغرب.
هذا سؤال بالنسبة إليه محط تفكير في الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية، مردداً بلسان الشاعر أن محاولة الجواب عليه يمكن أن تكون مفيدة، وبلغة الروائي هو يعمل منذ زمن على بنية حكائية تقدم شخصيات ووقائع، وهذا ربما يساعد على فهم الأمر بطريقة أفضل.
وعندما تصغي إلى الأشعري السياسي تجده متشبعا بقيم الحرية والانتماء للوطن، مؤمن باستمرارية الدولة وبأن بلاده لها تاريخ حتى في المجال الحديث، وبعقلانيته لا يريد البدء من الصفر، بل تطوير الأشياء التي لها بعد رمزي في المملكة، وأن تستمر الدولة باختياراتها الأساسية، وأن اختيار التعددية والاختلاف هو خيار استراتيجي في المغرب يجب أن نطوره بقدر ما نتطور سياسيا.
