محاولات جزائرية لترويض اقتصاد الظل في سجلات الدولة

عاد ملف الاقتصاد الموازي إلى الواجهة في الجزائر في محاولة من السلطات لترويضه في سجلات الدولة، بما يساعدها على رفد خزينة الدولة بعوائد إضافية تعزز معدلات النمو مستقبلا، وفي الوقت نفسه تحريك عجلات القطاع المصرفي الذي لا يزال مُنفّرا.
الجزائر - يواجه صناع القرار السياسي والنقدي في الجزائر تحديا كبيرا لاستبدال الآليات التي كانت متبعة طيلة سنوات لامتصاص السوق غير الرسمية، بدل الدخول في مواجهة مع العاملين بذلك القطاع قد تؤدي إلى نتائج عكسية.
ولطالما تعالت الأصوات مطالبة الحكومة بوضع إستراتيجية عاجلة لإدماج اقتصاد الظل ضمن الاقتصاد الرسمي وفق أسس مدروسة لتعزيز معدلات النمو، خاصة وأن الفرصة سانحة الآن لتفادي أي مشكلات أعمق مستقبلا.
وأحد أهداف السلطات هو أن تعيد للبنوك الكتلة الكبيرة من الأموال المتداولة خارج القطاع المصرفي في بلد يبلغ عدد سكانه 40 مليون نسمة، بدل اللجوء إلى طباعة النقود للحد من سطوة السوق الموازية.
ومع مطلع العام الجاري وجه الرئيس عبدالمجيد تبون "نداء أخيرا"، مغلفا بالتهديد في الوقت نفسه، لمن وصفهم بـ"مكدسي ودافني الأموال في البيوت"لإدخالها إلى البنوك.
وقال خلال اجتماع في يناير الماضي مع الولاة (المحافظين) "ما زالت هناك أموال مكدسة في البيوت ومدفونة.. آخر نداء لإخواننا الذين يحوزون على هذه الأموال، وهي غير مستعملة في الاقتصاد الوطني، لكي يتم ضخها في الاقتصاد".
وتابع "لمن تحججوا بالربا لقد فتحنا بنوكا إسلامية، وإيداع هذه الأموال المكدسة في البنوك ستكون له آثار إيجابية على الاقتصاد، والتضخم سينزل وقيمة العملة سترتفع”. وشدد على أنه "إذا اتخذنا إجراءات فمعناه أن الصبر انتهى وبلغ السيل الزبى".
وفي أغسطس 2020 شرعت البنوك العامة، حيث يمتنع كثيرون عن التعامل مع البنوك التقليدية، في العمل بالتمويل الإسلامي على أمل جذب الجزائريين الذين لا يملكون حسابات مصرفية، وإعادة جزء من الاقتصاد غير الرسمي إلى النظام المالي.
وشرع حينها البنك الوطني الجزائري وبنك الفلاحة والتنمية الريفية في تسويق منتجات الصيرفة الإسلامية، بعد وضع النصوص التشريعية والمالية الخاصة من طرف الحكومة.
وتعد الجزائر من الدول المتأخرة في اعتماد هذا النمط مقارنة بأقرانها من الدول العربية، حيث خيم التردد على قرار الحكومات المتعاقبة، رغم أن الحديث عنها بدأ منذ 2014، تاريخ اهتزاز التوازنات المالية للبلاد، بسبب تهاوي أسعار النفط وتقلص احتياطاتها النقدية.
وخلال اللقاء ذاته تحدث تبون عن مبالغ مالية ضخمة قدرت بالمليارات من الدينارات عثر عليها لدى عائلة واحدة، دون تفاصيل إضافية.
وعلى مدى الأسابيع الماضية، غصت منصات التواصل الاجتماعي بأخبار عن حجز السلطات لمبالغ مالية كبيرة مخبأة في بيوت رجال أعمال بعدة محافظات.
وفُهمت عبارة النداء الأخير على أن السلطات تحضر لخطوة من أجل معالجة قضية الأموال المكتنزة خارج القنوات الرسمية، خاصة وأن تبون سبق وأن استبعد القيام بطباعة عملة جديدة لمعالجة هذه القضية المزمنة.
وقال إن "هذه الخطوة ليست حلا مثاليا، كون مكتنزي هذه الأموال سيخلقون أزمة من خلال طوابير للناس أمام المؤسسات المصرفية لتغيير الأموال".
ويبدو أن السلطات أدركت أخيرا أن جلب تلك الأموال لدعم القطاع المصرفي بات ضرورة ملحة في أي جهد للنهوض باقتصاد البلد العضو في منظمة أوبك، وتنويع مصادر الدخل بشكل تدريجي لتخفيف الإدمان على عوائد النفط والغاز.
وتعمل في السوق الجزائرية 29 مؤسسة مصرفية، منها سبعة بنوك حكومية، وأكثر من 20 مصرفا أجنبيا من دول الخليج على وجه الخصوص، وأخرى فرنسية وواحدة بريطانية.
وقبل إسقاط نظام عبدالعزيز بوتفليقة، لم تتمكن الحكومات السابقة من تطويق هذه السوق وتركت الحبل على الغارب ليتضاعف حجمها اليوم، وذلك استنادا إلى الإحصائيات الرسمية.
وتنتشر السوق الموازية على نطاق واسع خصوصا في القطاعات التجارية، تتداول فيها أموال ضخمة بعيدا عن التعاملات الرسمية في البنوك.
وتشير التقديرات إلى أن هناك الآلاف من العاملين في قطاعات التجارة والصناعة والخدمات يقومون يوميا بنشاطات لا تخضع للقوانين أو الرقابة، كما لا يدفعون الضرائب المستحقة.
وسبق أن أشار تبون إلى أن حجم السوق الموازية في البلاد بلغ ما يعادل 90 مليار دولار، أي أنه يوازي قرابة 47 في المئة حجم الناتج المحلي الإجمالي البالغ بنهاية 2022 حوالي 193.6 مليار دولار.
ويعني ذلك الرقم أنها بعيدة عن الأطر البنكية، وهو ما جعل غالبية الاقتصاد المحلي موازيا لا تستفيد منه الخزينة العامة، ولا المصالح الجبائية الممول الأساسي لها.
ومع تفشي اقتصاد الظل، انتشرت في الجزائر ظاهرة الدفع نقدا التي تعرف محليا بـ"الشكارة"، أي الأكياس المملوءة بالأموال، التي تستعمل في مختلف عمليات البيع والشراء بعيدا عن أي معاملات بنكية.
وغالبا ما تتم عمليات بيع وشراء السيارات والعقارات وغيرها، عبر عمليات الدفع نقدا، ويتفادى البائع والشاري التعامل مع البنك.
◙ 90 مليار دولار قيمة السوق الموازية أي 47 في المئة من اقتصاد حجمه 193.6 مليار دولار
ولسنوات شكلت البنوك عامل نفور للكثير من الجزائريين، بسبب المعاملات الربوية من جهة، وإجراءات تعطل في الكثير من الحالات سحب أصحاب الودائع لأموالهم من جهة أخرى.
ويرى المحلل الاقتصادي سليمان ناصر أن الكتلة النقدية المتداولة خارج البنوك سواء في السوق الموازية أو مخزنة في البيوت، ملف عجزت أمامه حكومات سابقة، حيث فشلت في إعادة إدماجها وشكلت صداعا مزمنا لها.
وقال ناصر، الذي يعمل أستاذا بكلية الاقتصاد في جامعة ورقلة الحكومية جنوب البلاد، في حديث مع وكالة الأناضول، إن السلطات “لجأت في 2016 إلى التصريح الضريبي الطوعي".
والتصريح الضريبي الطوعي يقوم على أن يأتي من لديه أموال مخزنة بها إلى البنوك، ولا يسألونه من أين أتى بها، وأن يدفع ضريبة مخفضة تقدر بنحو سبعة في المئة.
ويعتقد ناصر أن أنجح وسيلة لاستقطاب الأموال المكدسة في البيوت أو المتداولة في السوق الموازية، هي الإسراع في تطبيق إجبارية الدفع الإلكتروني في التعاملات التجارية والخدماتية.
وأوضح أن الدفع الإلكتروني أقر في ميزانية 2017، على أن يدخل حيز التطبيق بنهاية 2020 أي تم إعطاء الناس والتجار مهلة لمدة ثلاث سنوات، لكنه تأجل أكثر من مرة.
وبدل تأجيل تطبيق إجبارية الدفع اللكتروني المستمر منذ العام الذي تفشت فيه الجائحة، يقترح ناصر أن يتم ذلك في قطاعات معينة على غرار فواتير الكهرباء والغاز والهاتف الأرضي والجوال والإنترنت والمياه ومحطات الوقود والمساحات الكبرى للتوزيع.
وأشار إلى أن “أصحاب البطاقات سيصبح لزاما عليهم إدخال الأرصدة إلى حساباتهم البنكية والبريدية، ويتم عكس الطابور الذي كان أمام البنوك والبريد من أجل سحب الأموال، ويصبح الهدف منه إيداع الأموال في الحسابات للتمكن من استعمال البطاقات”.