مجلس الإعلام المصري يحاول رد اعتباره بوضع ضوابط للبرامج التلفزيونية

طبيعة ملكية القنوات في مصر لا تعطي المساحة الكاملة للمذيع ليدير برنامجه بمهنية.
الثلاثاء 2024/08/27
من أين يبدأ التغيير

يسعى مجلس تنظيم الإعلام في مصر لاستعادة دوره ومكانته كجهة منوطة بإصلاح أوضاع القطاع الذي يعاني جملة من المشكلات لا تتعلق بالعاملين فيه فقط بل بالمشرفين عليه، وتنازع الصلاحيات في هذا المجال، وإثبات كل جهة جدارتها في ضبط المشهد شريطة منحها صلاحيات كاملة.

القاهرة - يركز مجلس تنظيم الإعلام في مصر على محاولة إيجاد حل لما يوصف بـ”فوضى البرامج التلفزيونية”، والإيحاء بأنه يملك صلاحيات تجعله قادرا على ضبط المشهد والقيام بمهامه على أكمل وجه من دون اكتراث بأن أزمة المنظومة الإعلامية أكبر من توصيات وإصدار قرارات، حيث ترتبط بالمحتوى والمضامين والسياسة التحريرية والجهات التي تضعها.

واستقر الرأي داخل المجلس أخيرا بعد استشارة متخصصين على التدخل لتصويب مسار البرامج التلفزيونية، بحيث لا تتجاوز فترة البرنامج تسعين دقيقة، وعدم قيام المذيع بدور المحلل والضيف واحتكار الهواء لنفسه ليعبر عن أفكاره ورؤيته الشخصية، مقابل تجاهل قيمة الحصول على المعلومات من المصادر الرسمية.

وأبدى المجلس رفضه لتحويل بعض مذيعي البرامج الحوارية منابرهم إلى منصة لبث أفكارهم الخاصة، وتجاهل غالبية القنوات وضع سياسة تحريرية واضحة لها، تنظم من خلالها أداء المذيعين/المذيعات وطريقة عرض البرامج وهوية القناة.

وتشير تحركات مجلس تنظيم الإعلام إلى أنه يحاول التسويق لامتلاكه إستراتيجية إعلامية جديدة، تبدأ من ضبط أداء البرامج، في إسقاط غير مباشرة على أن الخطة التي تم التسويق لها من قبل جهات أخرى لم تؤت ثمارها، وما زالت الفوضى قائمة، وبالتالي يسعى المجلس للحصول على ضوء أخضر لتمرير تصوراته.

صفوت العالم: ضبط إيقاع المنظومة الإعلامية يتطلب إرادة قوية من كل الأطراف
صفوت العالم: ضبط إيقاع المنظومة الإعلامية يتطلب إرادة قوية من كل الأطراف 

وما يعزز هذا الطرح أن المجلس بدأ يسرّع قراراته وتوصياته واجتماعاته مع خبراء ومتخصصين، على أمل تثبيت صورته بأنه قادر على ضبط المشهد شريطة منحه صلاحيات كاملة، ودعمه في مواجهة مالكي قنوات لها الكلمة العليا على البرامج.

ويشكك البعض في نوايا تحركات مجلس الإعلام، لأنها لم تركز بشكل أساسي على صميم الأزمة واختزالها في طول وقت البرنامج الحواري والتوسع في الإدلاء بالآراء الشخصية وتجاهل التحليل المتعمق والمعلومة الموثقة، لأن المشكلة تكمن في السياسة التحريرية التي تحكم البرنامج ولا يستطيع المذيع الخروج عنها أو تجاوزها.

ويبدو تلويح المجلس بتفعيل عقوبات مخالفة الأكواد الإعلامية للمخالفين مهمّا، لكن العبرة في قدرته على تطبيقها، فهو في نظر المتابعين “منزوع الصلاحيات”، وثمة مذيعون أوقفت برامجهم وعادوا وكرروا الأخطاء نفسها، وتم منعهم من الظهور كنوع من التأديب، وفق حسابات متفق عليها مع الجهة المالكة للقناة صاحبة البرنامج.

ويُتهم الكثير من مقدمي البرامج الحوارية في مصر بأنهم يحتكرون الهواء، ويديرون فترة البرامج بما يتفق مع رؤاهم الشخصية، ويمارسون دور المذيع والمعد والضيف والمحلل والخبير، وتحولت أغلب البرامج إلى جلسات فضفضة أو دروس يلقيها المذيع على الجمهور، لكن المشكلة في السياسة المفروضة عليهم من جانب قنواتهم.

ويعتقد البعض من خبراء الإعلام أن استسهال بعض المذيعين في التنظير على المشاهدين لا يرتبط بسطحيتهم، لكن بالالتزام المفروض عليهم، مثل دعم قرار حكومي أو الإشادة بسياسة معينة، وإذا لم يجدوا الضيف الذي يؤدي هذا الغرض، يقومون بالمهمة كاملة، ويرتكبون سقطات كلامية عمّقت الفوضى وتسطيح المحتوى.

ويشير هؤلاء الخبراء إلى أن طبيعة ملكية القنوات في مصر لا تُعطي المساحة الكاملة للمذيع ليُدير برنامجه بمهنية، على مستوى المحتوى المقدم أو هوية الضيوف، والكثير مما يُقال على الهواء محدد سلفا، ومرسومة له خطوطه العريضة، وبالتالي فالأزمة ليست في هوية المذيع فقط، بل في غياب مساحة الحرية التي يتحرك فيها بأريحية.

وما يفسر ذلك أن مجلس تنظيم الإعلام ضمّن توصياته ضرورة أن تقوم كل مؤسسة إعلامية بمحاسبة مقدمي البرامج، حال وقوع خطأ، ما يوحي بأنه رفع الراية البيضاء أمام امتلاكه صلاحية الضبط والربط والحسم ضد المتجاوزين، وسلّم المهمة لمسؤولي القنوات كمحاولة لدفع الحكومة للتدخل كي تعيد إليه سلطاته.

وتوحي التحركات الأخيرة للمجلس بأنه يرغب في رد الاعتبار لنفسه، وأن فوضى البرامج الحوارية لم تكن لتحدث إذا سُمح له بالتدخل لتطبيق المعايير المهنية وفرض الأكواد ومواثيق الشرف على الجميع، لكن في كل مرة يواجه إشكالية مرتبطة بالجهة المالكة للقناة، وصارت هناك منابر لديها نفوذ أقوى من المجلس.

وهناك شبه اتفاق بين العارفين بأمور مهنة الإعلام في مصر على أن إصلاح المنظومة لم يعد يرتبط بإفساح المجال أمام جهة واحدة للهيمنة على المشهد واستعراض النفوذ على المؤسسات، بقدر ما يتعلق بوجود رؤية واقعية قابلة للتطبيق بلا تمييز أو خنوع أمام من يمتلكون السلطة والنفوذ وقاعدة العلاقات.

المجلس بدأ يسرّع قراراته وتوصياته واجتماعاته مع خبراء ومتخصصين، على أمل تثبيت صورته بأنه قادر على ضبط المشهد شريطة منحه صلاحيات كاملة

وقد لا يخلو توقيت الإعلان عن خطوة ضبط إيقاع البرامج الحوارية عن سعي مجلس تنظيم الإعلام وضع بصمات إيجابية بالتزامن مع اقتراب التغييرات المرتقبة في تشكيل الهيئات المسؤولة عن المشهد الإعلامي عموما، بحيث تُظهر كل جهة قدرتها على الإصلاح، وهي مكبلة الأيدي وتحتاج إلى دعم من جهات حكومية عليا.

وقال أستاذ الإعلام السياسي بجامعة القاهرة صفوت العالم إن ضبط إيقاع المنظومة الإعلامية يتطلب إرادة قوية من كل الأطراف المعنية بالمشهد، وتطبيق مواثيق الشرف بصرامة، كمطلب جماهيري، مع حتمية وضع إطار عام للبرامج الحوارية في كل محطة، وتشريح المشكلة وتقديم حلول جذرية قابلة للتنفيذ على الأرض.

وأشار لـ”العرب” إلى وجود إشكاليات معقدة تحتاج إلى حلول عاجلة، مثل عدم توافر المعلومات وتسطيح المحتوى وفرض وجهة نظر بعض المذيعين على الجمهور، وهذا دور القنوات بالتنسيق مع مجلس الإعلام، لأن البرنامج ليس ملكية لأحد، ويخص المشاهدين، وعندما يفقد هويته كمنبر للمعلومة وتعميق الوعي يصبح عبئا.

وتظل كبرى مشكلات الإعلام في مصر أن الهيئات الإعلامية التي تدير المشهد لم تحدد بالضبط من أين يبدأ التطوير والتغيير والفائدة، هل بتطبيق مواثيق الشرف أم بوضع سياسة ملزمة للجميع، أم إزاحة بعض الوجوه، أم البحث عن حل لمشكلة نقص المعلومات؟ في حين أن الحل يكمن في تطبيق هذه المعايير دفعة واحدة دون استثناء.

وثمة معضلة أخرى ترتبط بتمسك الكثير من القنوات بأهل الثقة على حساب أصحاب الكفاءات بحجة أن استقرار الأوضاع السياسية يتطلب استمرار من يؤمنون بالاصطفاف الإعلامي خلف الحكومة ولو بالتنظير والتفلسف أمام الجمهور، مع أن تجارب الاستعانة بإعلاميين لهم توجهات متزنة لم تؤلب الشارع وناجحة، ويكفي أن المواطن يجد من يتحدث بلسانه وينقل معاناته للحكومة.

وما يمكن الاتفاق عليه وقد يغيب عن ذهن القائمين على الهيئات الإعلامية أن المشاهد أكثر وعيا بوجود ممانعات لاستحداث خارطة برامجية تلبي تطلعات الشارع، لأن فرصة الوصول إلى محتوى متعدد ووجهات نظر مختلفة أصبحت أمرا صعبا، وأن المشكلة الحقيقية في عدم وجود إرادة لإطلاق العنان أمام الإعلام النزيه.

5