مجلة "الكلمة" الأدبية تتحول إلى فصلية وتعد بديمومة نشاطها

لندن– تبقى المجلات الثقافية المحرك الأول والأبرز للمشهد الثقافي العربي، سواء من خلال كشفها عن الأسماء الجديدة في عالم الأدب والفن أو عبر الإضاءة على التجارب الراسخة وتحريك النقاشات والقضايا الثقافية الراهنة، وهو ما لا تسمح به الصحف اليومية المشغولة بمتابعة الطارئ، لذلك كانت المجلات الملاذ البارز للمثقفين والمبدعين العرب.
لكن اليوم في ظل التغيرات الكبيرة التي يشهدها العالم صارت المجلات مهددة في وجودها، خاصة بعد تراجع مقروئيتها بتغير أمزجة القراء وعدم توفر الدعم الكافي للكثير منها، بينما خيرت مجلات أخرى الاتجاه إلى الفضاء الرقمي وتغيير طابعها.

المجلة حرصت على تربية ذائقة أدبية سليمة من خلال إعلاء القيمة الأدبية والاستقامة الفكرية لكنها واجهت صعوبات كثيرة
ومن أبرز المجلات الثقافية التي واكبت مختلف ملامح الثقافة العربية مجلة “الكلمة” الأدبية الفكرية، وهي منبر إلكتروني مستقل، ويبلغ عمرها اليوم خمس عشرة سنة، كرست خلالها مكانتها منبرا مفتوحا للطاقات الإبداعية على اختلاف انتماءاتها. “الكلمة” لم تكن تهتم في النشر بالأسماء على حساب النصوص، ولا رهان لها سوى كشف الملامح الثقافية الجديدة والمختلفة، وهو ما سخرت له أعدادها الشهرية بملفاتها ومواكباتها للكتب والأحداث الثقافية والفنية، وغيرها من عناصر الثقافة العربية.
لكن في السنوات الأخيرة التجأت المجلة إلى التطوع للاستمرار في خدمة الثقافة العربية، وهو ما دفعها في الأيام الأخيرة إلى تغيير صبغتها من شهرية إلى فصلية.
وكتب محرر “الكلمة” صبري حافظ في افتتاحية عدد 182 لشهر يونيو من المجلة بعنوان “ليس وداعا.. وإنما تغيّر” عن الأسباب التي حدت به إلى تحويل المجلة -بعد مسيرة تجاوزت خمسة عشر عاما- من شهرية إلى فصلية، بعدما أبهظ العمل التطوعي في مجلة شهرية كاهل بعض محرريها وهو في طليعتهم، كما كتب عن المتغيرات الشخصية والموضوعية التي تقف وراء اتخاذ هذا القرار الصعب.
يقول حافظ “بعد أن أكملت ‘الكلمة’ عامها الخامس عشر، في نهاية العام الماضي، فكرت كثيرا في التوقف عن إصدارها، مع إبقاء كل أعدادها مفتوحة للقراء على موقعها. لأن استمرار عمل ثقافي مستقل، وبهذا المستوى الذي حرصنا على الحفاظ عليه قدر طاقتنا، ولخمسة عشر عاما، كان أمرا كافيا لتأكيد قيمة الثقافة الحرة المستقلة”.
ولفت حافظ إلى أن “الكلمة” حرصت على تربية ذائقة أدبية سليمة من خلال إعلاء القيمة الأدبية والاستقامة الفكرية، وتجنب الحسابات الصغيرة، ومواجهة الأجندات الفاسدة، نبراسا لتلك القيمة وتجسيدا مستمرا لها. كما التزمت المجلة طوال تلك السنوات بموعدها الشهري مع القارئ، تحرص عليه احتراما منها لنفسها ولقارئها في آن واحد، رغم أنها لا تقف خلفها أي جهة وليست لها ميزانية ضخمة.
ويضيف حافظ “تراكم أرشيفها على موقعها وفتْحه كليًّا للقراء -بأعداده التي تجاوزت الآن مئة وثمانين عددا- خير دليل على ما قامت به من دور ثقافي فريد”، لافتا إلى أنه سيبقى مفتوحا رغم محاولة الكثيرين السطو عليه ونسبه إلى أنفسهم. وذكّر بجهود أسرة تحريرها التطوعية وخاصة الذين بدأوا مع انطلاق مسيرتها عام 2007، أثير محمد علي وعبدالحق ميفراني ومنتصر القفاش، وواصلوا الالتزام بها مع كرّ السنين.
ويبين حافظ أن مجلة “الكلمة” قد وعت القفزة العملاقة في عدد مستخدمي الإنترنت في العالم العربي، واهتمت بالاستجابة لها، وهو ما نجحت فيه فعليا؛ فلم تبق بقعة في كوكبنا الأرضي -من أقصى شماله في كندا وإسكندنافيا وروسيا، إلى أقصى جنوبه في أستراليا ونيوزيلندا- إلا واستقطبت المجلة فيها قراء ومتابعين.
لكن التغير الأهم الذي حتم عليهم الاستثمار في تطويرها بعد عشر سنوات من صدورها وتحديث موقعها عام 2016 جرى حينما تجاوز عدد من يستخدمون الشبكة الرقمية -من خلال أدوات جديدة كالأجهزة اللوحية والهواتف الذكية- عدد من يستخدمونها من خلال الكومبيوتر عدة مرات. فقاموا وقتها بالاستثمار في إعادة تجهيز الموقع.
في السنوات الأخيرة التجأت المجلة إلى التطوع للاستمرار في خدمة الثقافة العربية، وهو ما دفعها في الأيام الأخيرة إلى تغيير صبغتها من شهرية إلى فصلية
غير أن المتغيرات لا تتوقف، كما يقول حافظ، متابعا “فقد امتدت أيادي شركات الشبكة الرقمية الطويلة إلى أدق خصائص الحياة اليومية لهذه الملايين الجديدة من مستخدميها. وأتاحت لهم، من أجل السيطرة عليهم والاستفادة من تدفقهم على منصاتها، وهم التعبير والكتابة والنشر دون تأجيل أو رقابة -وخاصة من خلال الفيسبوك واليوتيوب وأشباههما من مواقع التدوين وقنوات الدردشة- بدلا من اللجوء إلى مجلة ثقافية رصينة مثل ‘الكلمة’. أقول وهم التعبير، لأن تلك الشركات العملاقة -وليس من قبيل الصدفة أنها كلها، من فيسبوك وغوغل ومايكروسوفت، أميركية- تستهدف استخدام كل هذا التعبير عبر خوارزمياتها الذكية في دمج الجميع في آلة الرأسمالية الاستهلاكية النيوليبرالية المتوحشة، وتحت سطوة الهيمنة الأميركية على الخطاب السائد، ومنهج الحياة والتصورات المستساغة”.
ويواصل قائلا “مما يحزنني كمتابع لتلك المتغيرات أن أجد الكثير من الكتاب، والكتاب المحتملين، يبددون جزءا كبيرا من طاقتهم في الفيسبوك وأشباهه. وقد استقطبهم فيه هذا الوهم بالتعبير، بدلا من إنفاق تلك الطاقة في عمل يُنشر ضمن سياق مؤثر ومغاير كليًّا لسياقات النشر الجهنمية في شركات الهيمنة العملاقة تلك. أقول الجهنمية لأنها بالفعل كذلك، لا توفر لهم وهم التعبير عما يريدون كتابته فحسب، ولكنها تدغدغ -بوصلاتها الشبكية وبعداداتها المختلفة من إعجاب أو استهجان- الجانب الفردي على حساب الجوانب الجمعية والقيمية”.
وذكّر حافظ بعامل شخصي آخر، فضلا عن الشعور بأن عبء العمل التطوعي يبهظ كاهل الكثيرين في هذا الزمن العربي، وهو أن العمر تقدم به إذ بلغ الثمانين في العام الماضي، وبدأ عامل السن يؤثر فيه وفي استمراره بنفس الجهد والنفس.
ويتابع حافظ “بعد تناول تلك المتغيرات -الشخصية منها والموضوعية- أقول إنني أميل الآن إلى إصدار ‘الكلمة’ بشكل فصلي، ليس فقط لأن هذا هو أقصى ما في طاقتي الآن، وقد تبدد الكثير منها بين زيارات الأطباء والمستشفيات بعدما كنت لا أقربهم أبدا، ولكن أيضا لوعيي بأن عالمنا العربي مازال بخير، ومازال في حاجة إلى مثل تلك المجلة”.
وأعرب عن امتنانه الكبير لكل أعضاء أسرة تحرير “الكلمة” -القدامى منهم والجدد- ولكتاب المجلة مناشدا كل من يجد في نفسه القدرة على الإسهام في تحرير “الكلمة” والحفاظ على شعلتها متقدة “أن يبادر بالكتابة إلينا بما يستطيع أن يضيفه من إبداع أو نقد أو بحث يضيء الطريق للآخرين”.