مجاراة الجمهور في قضايا حساسة تورط الإعلام المصري في نشر الشائعات

القاهرة - أحرج الإعلان الرسمي عن موعد صدور نتيجة امتحانات الثانوية العامة (البكالوريا) في مصر الكثير من الصحف والمواقع الإلكترونية والقنوات التلفزيونية، والتي دأبت على مدار أيام على نشر معلومات غير دقيقة، وصفتها بالسبق الصحفي لموعد إعلان النتيجة، لكن وزارة التعليم خرجت بموعد مغاير تماما، ما وضع غالبية وسائل الإعلام في مأزق.
وتحدد موعد نتيجة البكالوريا الثلاثاء، في حين تسابقت وسائل الإعلام في نشر توقيتات مختلفة، وتناست تحذيرات حكومية بأهمية الالتزام بالمعلومات الرسمية، وتجاهلتها واستمرت في الترويج لأخبار غير دقيقة حول موعد إعلان النتيجة.
واستثمرت الكثير من المنابر الإعلامية هوس الجمهور للبحث عن معلومات تخص نتيجة البكالوريا، ووقعت في فخ عدم توثيق الأخبار، ما صب غضب طلاب وأولياء أمور على الإعلام، واتهم بنشر معلومات مضللة أمام الضعف وقلة الحيلة في الحصول على أنباء موثقة من المؤسسات الرسمية المعنية.
وأظهر التخبط في نشر معلومات غير دقيقة أن الكثير من وسائل الإعلام المصرية لا تجيد التعامل مع الأحداث الجماهيرية الكبرى، وتنجرف وراء الشائعات لتعويض ندرة المعلومات الرسمية، ومع أن غالبيتها تتبع جهات حكومية، لكنها في قضايا حيوية لا تتعامل بدقة، ما يغرق بعضها في نشر ما يندرج في إطار الأكاذيب.
وتعد فترة امتحانات البكالوريا وإعلان نتيجتها من أهم الأحداث الموسمية التي تنتظرها وسائل الإعلام لتحقيق الرواج وزيادة معدلات القراءة والمشاهدة، وبمجرد نشر أي معلومة يتسابق الجمهور لمطالعتها، ولذلك تتهافت على الملف الجماهيري.
ويتعامل المجتمع المصري مع نتيجة الثانوية العامة بخصوصية شديدة، وانتقل ذلك بالتبعية إلى وسائل الإعلام، لأنها في نظر الملايين من الأسر مرحلة فارقة في مسيرة الطالب التعليمية، وتمثل المحطة الأهم للالتحاق بالجامعات وفرص التوظيف مستقبلا.
وما عمق كثافة نشر وإذاعة معلومات غير دقيقة عن البكالوريا أن وزارة التعليم، تمادت في الصمت وعدم الإفصاح عن أي معلومات تخص الملف، بحكم أن إجراءات تصحيح ومراجعة النتيجة يأخذ وقتا طويلا، بينما هناك قلق وترقب وشغف أسري.
ودأب مسؤولون حكوميون على اتهام وسائل الإعلام بأنها صنعت حالة من القدسية المجتمعية تجاه مرحلة البكالوريا، حتى صارت في نظر الأهالي “بعبع” يثير الهلع بين الناس، وهي إشكالية عجزت الحكومة عن حلها بخطاب يطمئن الشارع.
وبلغ حد التسرع في السبق المعلوماتي دون تدقيق أن بعض الصحف الكبرى أفردت عناوين عريضة في صدر صفحاتها الأولى، عن انتهاء نتيجة البكالوريا، منذ عدة أيام، ثم بعد يومين عاودت نشر معلومات مغايرة تماما لما سبق وأعلنته، وهكذا فعلت بعض المواقع والبرامج، ما عرّض صحافيين تمسكوا بالدقة للتعنيف من مؤسساتهم.
من هؤلاء، محمود (م)، وهو اسم مستعار لصحافي متخصص في ملف التعليم بصحيفة كبرى، قرر عدم مجاراة ما وصفه بـ”التضليل المعلوماتي” حول نتيجة البكالوريا، والتزم بالبيانات الرسمية كي لا يقع في فخ التكذيب، ويحمي مؤسسته من اتهامات الجمهور بالكذب، لكنه نال لوما من مرؤوسيه، بسبب ما ينشر هنا وهناك.
وقال لـ”العرب” إن بعض الصحف والمواقع طلبت من المحررين عددا لا يقل عن عشرة أخبار بشكل يومي، كل منها يخص البكالوريا، بتوثيق معلوماتي أم لا، المهم مجاراة الرأي العام والحصول على قدر معقول من نسب المشاهدات، وأمام شح المعلومات الرسمية وقعت بعض وسائل الإعلام في فخ التضليل وغياب المحاسبة.
الكثير من المنابر الإعلامية استثمرت هوس الجمهور للبحث عن معلومات تخص نتيجة البكالوريا، ووقعت في فخ عدم توثيق الأخبار
وما يلفت الانتباه أن كل ما نُشر في وسائل الإعلام المصرية عن موعد نتيجة البكالوريا طوال أسبوع كامل كان مزيفا، والمثير أن جميع الصحف والمواقع اختلفت عن بعضها في المعلومات، إلى درجة بلغت حد إعلان بعضها عن معدلات النجاح النهائية بينما كانت إجراءات التصحيح للامتحانات لم تنته بعد.
لجأ بعض الصحافيين إلى الاتفاق مع بعضهم على سبيل التعاون، في نشر معلومات تخص البكالوريا، بحيث لا يقوم أي منهم بتكذيب الآخر أو إذاعة خبر مغاير لما بثه الزميل في منبر منافس، ويقوم هذا الفريق بحماية أعضائه من تهمة التزييف أو اختراع معلومات غير موثقة، لأن هناك أكثر من وسيلة إعلامية نشرت نفس المحتوى.
وأصبحت المعلومات مجهولة المصدر وسيلة وحيدة للتغطية الصحافية في الملفات الجماهيرية، مع تمسك العديد من المؤسسات الحكومية بالاكتفاء بإصدار بيانات لا تفي بالغرض ولا تجيب على تساؤلات الشارع، بحجة وجود إجراءات لم تنته، ولا يجب أن تخرج المعلومة للناس مبتورة، ويتم التريث في الرد على استفسارات المواطنين.
ويرى خبراء في مجال الإعلام أن الاستعانة بمصادر مجهلة لتعويض نقص المعلومات الرسمية أمر متعارف عليه إعلاميا، لكن مشكلة الإعلام المصري أنه لا يتعلم من دروس الماضي ويصر على الاهتمام بجذب الجمهور بطرق غير مهنية أحيانا في القضايا الجماهيرية التي تتطلب إعلاء المهنية والمصداقية، لأن الناس وقت الأزمات تبحث عن المعلومة وليس السبق.
مسؤولون حكوميون دأبوا على اتهام وسائل الإعلام بأنها صنعت حالة من القدسية المجتمعية تجاه مرحلة البكالوريا
وأشار الخبير الإعلامي جلال نصار إلى وجود سوء فهم لدى بعض وسائل الإعلام لطبيعة التعامل مع السبق الصحفي، لأن الجمهور في الأحداث المهمة يترقب المعلومة الموثقة، لكن التخبط بين المنابر حول خبايا قضية جماهيرية يشوه الصورة ويعزز فقدان المصداقية، وتظل المشكلة في الشح المعلوماتي حول ملفات من صميم اهتمامات الناس.
وأوضح لـ”العرب” أن ضبط إيقاع الإعلام المصري يتطلب المحاسبة على نشر أي معلومة مغلوطة، لأنه لا يصح أن تكون هناك منابر رسمية تنشر شائعات لمجراة هوس الناس لمعرفة كل ما هو جديد حول ملف بعينه، لأن ذلك يجعل بعض وسائل الإعلام متهمة من الجمهور المستهدف بالتضليل وغياب الوعي، على الرغم من أن مهمتها الأساسية أن تكون مصدرا للحقيقة الكاملة.
وتتحمل بعض الجهات الحكومية الجزء الأكبر من فوضى المعلومات والمغالطات التي تضرب العديد من وسائل الإعلام المصرية، لكن هذا لا يعني أن تتجرأ صحف ومواقع على نشر أخبار كاذبة لمجرد أن محركات البحث على شبكة الإنترنت تحثها على ذلك، مع أن الحكمة تقتضي استغلال الأحداث الهامة لتعزيز المصداقية بدلا من صورة الإعلام.
وهناك من يدافع عن صمت الجهات الرسمية بذريعة وجود معلومات يجب نشرها في توقيتات محددة كي لا تتسبب في غضب أو ريبة الجمهور، والمشكلة في عدم تفهم الإعلام لطبيعة العمل داخل الجهاز الحكومي وقت الأحداث المهمة التي تشغل الشارع، ودور المختصين في الملفات المهمة أن يكون لديهم الحس السياسي للموقف.