مثقفون عرب يبحثون في القاهرة سبل "تجديد الخطاب الثقافي"

بمشاركة أكثر من 125 باحثًا وناقدًا ومثقفًا عربيًا وأجنبيًا من 17 دولة، وعلى مدار ثلاثة أيام، اجتمع حشد كبير من المثقفين والإعلاميين العرب والأجانب لبحث آليات تجديد الخطاب الثقافي في الوطن العربي.
بدأ الملتقى الأحد 29 مايو واستمر على مدار ثلاثة أيام في مناقشة عدد من المحاور الرئيسية منها: سبل تسويق المنتج الثقافي، والعلاقة بين الثقافة والتعليم، وسبل تجديد الفكر الثقافي العربي، والثقافة والمستقبل في السياق العربي الأفريقي، والتشريعات التي ينتظرها المثقفون من البرلمان، ودور المجتمع المدني في تجديد الخطاب الثقافي، وتعلم الإبداع وتعليمه، وإدارة العمل الثقافي وإشكالياته ودور التكنولوجيا في تجديد الخطاب الثقافي، فضلًا عن عقد ثلاث ورش عمل تتعلق بآليات تجديد الخطاب الثقافي، وتسويق المنتج الثقافي، والشباب وتجديد الخطاب الثقافي.
حضر الملتقى عدد من أبرز المثقفين العرب على رأسهم الروائي الفلسطيني ربعي المدهون والكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه والروائي السعودي يوسف المحيميد والجزائري واسيني الأعرج والكاتبة المغربية وفاء صندي، كما كان من أبرز المشاركين المصريين الروائي يوسف القعيد والناقدة هويدا صالح والمترجم أنور مغيث والدكتور جابر عصفور وأيضا الدكتور شاكر عبدالحميد.
تجديد الخطاب
بدأ اليوم الأول للملتقى بكلمة وزير الثقافة المصري حلمي النمنم الذي لفت إلى أن الملتقى يثير التساؤلات حول الأزمات التي تعم العالم العربي، مضيفًا أن “تجديد الخطاب الثقافي عليه الخروج من مشروع ثقافة الموت المتمثّلة في مدرسة الإخوان المسلمين، وبعض المدارس الأخرى التي فشلت في الخروج من هذه الأزمات ولم يبق أمامنا سوى المدرسة الثقافية الوطنية”.
وأشار وزير الثقافة المصري الأسبق جابر عصفور، في كلمته، إلى أن تجديد الخطاب الثقافي يواجه أربعة تحديات متمثلة في الفقر والحريات والتعليم والخطاب الديني، موضحًا أن مصر بها أكثر من 40 مليون مواطن تحت خط الفقر، وأن الحريات تعاني من أزمات واضحة، كما أن الحكومات لم تفلح في حل مشكلة التعليم المنحدر في مصر، فضلًا عن أن الخطاب الديني في العالم العربي غدا كارثة يجب الانتباه لها.
من جانبه، تحدث وزير الثقافة المصري الأسبق شاكر عبدالحميد عن الصناعات الثقافية والإبداعية موضحًا أن مفهوم الصناعة لا يتعارض مع فكرة الثقافة، فالصناعات الإبداعية أحد المحركات الكبرى للاقتصاد في الدول المتقدمة والنامية، لافتا إلى أن ثقافتنا تنحاز إلى اللغة أكثر من العلم.
تغيير الصورة التي استقرت لدى البعض والتي مفادها أن الثقافة تعني الأدب والموسيقى والفنون التشكيلية فقط
أما الكاتب الجزائري واسيني الأعرج فقد تحدث عن سبل تجديد الخطاب الروائي من خلال تجديده لمأزق التخييل وربط ما بينه وبين مواجهة التطرف، وضرورة إعادة الرواية لترتيب التاريخ تخييليا، في تماس مع مادة الحياة، فضلا عن ضرورة تحرير
المتخيل بوصفه أهم شكل من أشكال المقاومة التي تدل على حرية الإنسان، وهز يقين الخطاب الذي نشأ في الحاضنة القومية التي تتمزق اليوم.
في السياق ذاته، تحدثت الكاتبة المغربية وفاء صندي عن مشاكل الثقافة العربية، ومنها الفجوة ما بين المواطن والمثقف، وغياب الحوار، وتضخيم الذات، وغياب العلم، والانعزال في الماضي، موضحة أن السنوات الماضية شهدت تحولات كبيرة أفرزت مجموعة جديدة من الرهانات تصب جميعها في ضرورة وجود مجتمعات واعية، قادرة على تحقيق توازن يحمي الإنسان والأوطان على حد سواء، وأن إصلاح الثقافة يمثل الضمانة الحقيقية لنجاح مشروعات الإصلاح كافة التي تحتاجها أوطاننا اليوم.
الثقافة والمجتمع
من جانبه، تحدث الكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه عن الثقافة والمستقبل في السياق العربي الأفريقي، موضحًا أن البنى الثقافية في أفريقيا التي تم هدمها خلال المرحة الكولونيالية، أنتجت فراغًا لم تستطع الترتيبات الجديدة تعويضه أو وضع بديل له، مع صعوبة العودة إلى التراث وبعثه من جديد كما هو، داعيًا إلى إعادة الاعتبار للعامل الثقافي واعتماده أساسًا في المشروع النهضوي الذي تسعى البلدان العربية الأفريقية إلى تحقيقه، ودخول المرحلة القادمة بسياسة ثقافية يكون قوامها الأساسي القيم الدينية الحضارية والمدارس الأدبية والفنية الزاخرة باللون المحلي، والتعليم الذي يستفيد من العصر والتراث، وصولاً إلى الخطاب الجديد الذي لا نهوض إلا باعتماده منهجًا في سياساتنا.
الخطاب الثقافي – وغيره من الخطابات – لا يحتاج فقط إلى التجديد إنما هو بحاجة إلى النسف والبدء من جديد
أما الباحث محمد مدحت جابر، رئيس قسم الجغرافيا بجامعة المنيا، فقد أكد على ضرورة التحديد الدقيق لمفهوم الخطاب الثقافي وضرورة تغيير الصورة الذهنية التي استقرت لدى البعض والتي مفادها أن الثقافة تعني الأدب بفروعه والاهتمام بالموسيقى والفنون التشكيلية لا غير، كما تطرق لأهمية فض الاشتباك بين الثقافة الوطنية والأجنبية مما أظهر نوعًا من الثنائية الثقافية، وأهمية مساهمة الخطاب الثقافي في تجديد الخطاب الديني، مع الاستفادة من معطيات الجغرافيا الثقافية لتطوير الخطاب الثقافي.
في حديثه عن الإصلاحات التشريعية الضرورية لتجديد الخطاب الثقافي، تحدث الأديب المصري يوسف القعيد عن المحاولات التي يقوم بها البرلمان المصري للحد من بعض التشريعات التي ساهمت في قضايا إزدراء الأديان وغيرها، لافتًا إلى أن الخطاب الثقافي – وغيره من الخطابات – لا يحتاج فقط إلى التجديد إنما هو بحاجة إلى النسف والبدء من جديد.
وفي اليوم الثاني للملتقى أوضح الأكاديمي أحمد زايد، أستاذ علم الاجتماع السياسي، أن منظومة القيم الثقافية تحتاج إلى التجديد مع تغير منظومات القيم في مجتمعات العالم، والتي اتخذت طريقين: الأول هو تحول القيم من المعنوية إلى المادية، والثاني هو تحول القيم من الجمعية إلى الفردية، ما يؤكد ضرورة العمل على تحديث منظومة القيم في إطار تجديد المنظومة الثقافية.
وتحدث المترجم المصري أنور مغيث عن تغير الثقافات بصورة تدريجية لا شعورية، ولكن في بعض الأزمات يصبح هذا التغير ضروريا، فالجميع أصبح يدرك عدم ملاءمة ثقافتنا للعصر الذي نعيش فيه وأصبح الجميع ينادي بضرورة التجديد، فيما تحدثت الناقدة السورية رشا ناصر العلي عن ضرورة ربط الخطاب النقدي بأنساق الثقافة، وضرورة الاحتراس من المفهوم المغلوط للمعاصرة الذي يسقط في حباله بعض الدارسين والمبدعين، وهو نقل النموذج العصري من الثقافات والبيانات غير العربية وإعادة غرسها في الواقع العربي دون النظر إلى خصوصية هذا الواقع.
في الجلسة الثانية، شاركت الكاتبة زينب عفيفي بورقة بحثية عنوانها “الفلسفة والثقافة في عالم متغير”، وتحدثت فيها عن الفلسفة عبر تحولاتها التاريخية والرؤية العصرية لها، ومفهوم الفلسفة وعلاقته بالثقافة والحضارة في عالم متغير، وضرورة وجود فلسفة عصرية تؤسس لهوية ثقافية وتؤصل للمواطنة والانتماء، فيما شارك د. محسن توفيق ببحث عنوانه “حراك الفلسفة والعلم والدين– تداعيات ثقافية”، حيث لفت إلى أن الهزة الفكرية العنيفة التي أعقبت ظهور نظرية النسبية في أوائل القرن العشرين شكلت عهدًا جديدًا للعلم في نظرته الجديدة “الكلية”، والتي تتسق مع الصوفية الدينية، والتداعيات الثقافية.
|
وحول علاقة تجديد الخطاب الثقافي بالإدارة الثقافية، أوضح المخرج أحمد العطار أن البلاد العربية تعاني من غياب تلك الإدارة، وأن هناك الكثير من التحديات الثقافية التي تواجه مصر والدول العربية يمكن معالجتها من خلال الاهتمام بالإدارة الثقافية، فيما أكد د.خالد عزب على ضرورة إعادة هيكلة وزارة الثقافة، والاهتمام الإعلامي بالبرامج الثقافية وتوثيق ونشر التراث الشعبي للتحسين من تسويق الإبداع.
من جانبه، أكد الباحث يوسف المحيميد على أن العمل الثقافي في الكثير من الدول يحقق نجاحه، عبر اهتمام الحكومات بالثقافة وإدارة العمل الثقافي من خلال مثقفين أكفاء، متعرضًا للصعوبات التي تواجه العمل الثقافي في السعودية.
من جهته، تحدث الباحث زاهي ناضر في بحثه “إشكاليات التغيير التربوي في العالم العربي” عن دور التربية في الإصلاح، وهو ما تقوم به المدارس والتربية الدينية ووسائل الإعلام، متطرقًا إلى معوقات التطور التربوي الدينية والسياسية التي تحول دون مسايرة المعاصرة.
كما لفت الناقد الأدبي شريف الجيار إلى أن الأمية هي المشكلة الرئيسية التي تحول دون حدوث أي تجديد أو تطوير في مصر، وضرورة أن تضطلع الهيئة العامة لقصور الثقافة بدورها في الحد من الأمية، فيما أشار الدكتور عبدالرحمن حجازي في بحثه “الثقافة والتعليم في العالم العربي” إلى أن تجديد الخطاب الثقافي لن يتم إلا بربطه بالتعليم، والذي سيكون البداية نحو الفهم الصحيح لمصطلح “الذات والآخر”.
فضاء حوار
وفي اليوم الثالث للملتقى، الذي شهد ختام فعالياته، عقدت العديد من الجلسات فجاءت الجلسة الأولى لمناقشة الثقافة الجغرافية والوعي بالتنمية، وثقافة العدالة المكانية، وسبل تجديد الخطاب الثقافي؛ إذ أوضح الدكتور حمدي هاشم، الخبير في الجغرافيا البيئية، في ورقته البحثية بعنوان “الثقافة الجغرافية والوعي بالتنمية”، أن كل العلوم والمعارف القديمة والمعاصرة لا تخلو من دور للجغرافيا فيها من جميع النواحي، بحكم أهمية موقع الجغرافيا المتشابك مع الحيز المكاني بجانبيه الطبيعي والبشري.
من جانبه، أكد الباحث فتحي أبو عيانة، أستاذ الجغرافيا البشرية، أن الخطاب الثقافي يعد أحد الروافد الرئيسية التي توجه المجتمع نحو الأفضل خاصة في المجتمعات التي تحاول أن تلحق بركب التقدم ومنها المجتمع المصري، فالتركيب المجتمعي أساس لفهم الموروث القيمي، والذي يتحدد في ضوئه نمط الخطاب الثقافي، بينما تحدث الأكاديمي فتحي مصيلحي عن المكان بوصفه عاملًا أساسيًا في المجتمعات الإنسانية لذا فمن الضروري فهم التفاعلات بين المكان والمجتمعات ليتسنى لنا فهم المظالم الاجتماعية.
البنى الثقافية في أفريقيا التي تم هدمها خلال المرحلة الكولونيالية أنتجت فراغا لم تستطع الترتيبات الجديدة تعويضه
في بحثها “إشكاليّات تجديد الخطاب الثقافي في المجتمع العربي”، تحدثت الناقدة اللبنانية رفيف رضا صيداوي عن النظرة المركّبة والمعقّدة بين مجتمعٍ ما وثقافته، وذلك من خلال إشكالية أساسيّة تتمثّل في الفراغ الثقافي والفكري الذي تعاني منه مجتمعاتنا العربيّة، في زمنٍ تتعمَّم فيه المعارف المدعومة بوسائل الاتصال والتواصل الحديثة وبتطوّر ما بات يسمّى بالسياسات الثقافية المختلفة، انطلاقًا من هذه الرؤية السوسيولوجيّة، تبدأ الدراسة في استكشاف بعض مظاهر هذه العلاقة الملتبِسة بين الثقافة والمجتمع، راصدةً تغيّر ماهية المثقّف وهويّته مع سيادة مقولة “نهاية المثقّف”، فيما لفت عبدالغني داود في بحثه “المثقف ما بين التهميش والفعالية” إلى انقسام المثقفين في مصر إلى قلة ذات حظوة مقربة من السلطة، وأغلبية مهمشة في ظل سلطة سياسية لا تهتم بدور الثقافة ومكانتها في حياتنا، منوهًا بأنه لن يتسنى تجديد الخطاب الثقافي إلا إذا أصبح للمثقفين دور في مسيرة الأمة.
انتهى الملتقى الدولي لتجديد الخطاب الثقافي بعدد من التوصيات، على رأسها تشكيل لجنة علمية لدراسة المقترحات التي طرحت في الملتقى، وفتح “فضاء حوار” إلكتروني لمناقشة الحوار وتفعيل ورش عمل مصغرة للتدرب على التقنيات الحديثة، فضلًا عن فتح حوار دائم مع كل منظومات المجتمع المدني والجامعات المصرية، ومراجعة المنظومة التعليمية لبناء نظام تعليمي كفيل بتشكيل عقل مواطن من خلال عودة المسرح والصحافة والفن التشكيلي، وتجديد الخطاب الديني لأنه جزء لا يتجزأ من الخطاب الثقافي، وبحث كيفية إدارة الإعلام طبقا لمشروع ثقافي ملائم لطبيعة المرحلة.