متى تتحرر مجتمعاتنا من الطبقية والقبلية والطائفية

السبت 2014/06/14

كان من أسباب اندلاع الانتفاضات العربية المطالبة بالكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية ومحاربة استغلال الطبقات ذات السيادة للطبقات الأقل نفوذا، لكن بعد مرور ثلاث سنوات على اندلاع الانتفاضات نجد أن العنصرية الطبقية والطائفية والقبلية مازالت متغلغلة في تفكير أغلب طبقات المجتمع، وأن التغني بالمساواة ليس سوى كلام فضفاض يكشر عن أنيابه عند أول اختبار.

قسم أحمد موسى بدوي، باحث وأكاديمي مصري وأستاذ علم الاجتماع، التركيبة الطبقية في البلدان العربية إلى ست طبقات أساسية هي: الطبقة المركزية المتحكمة، والطبقة الوسطى المتنفذة، والطبقة الوسطى المستقرة، والطبقة الفقيرة، والطبقة العاملة، والفئات اللاطبقية الكادحة. فالانتفاضات التي حدثت كان من أهم أهدافها تحطيم قيود الطبقة المركزية المتحالفة مع الطبقة الوسطى المتنفذة من قبل باقي طبقات الشعب.

الحديث عن الحريات والديمقراطيات لن يجدي نفعا إذا كان هذا الاستعلاء بين طبقات المجتمع مازال مستمرا، رغم ما نسمعه عن المساواة والكرامة الإنسانية، لكن التفاوت بين الفقراء والأغنياء مازال موجودا في عقلية أغلب شعوب البلدان العربية والتقرب والتعامل مع الشخصيات نظرا لنفوذها في السلطة أو لمركزها المادي والعلمي مازال يهيمن على أغلب سمات العلاقات الاجتماعية.

فالعنصرية لا توجد فقط بين النخبة والعامة ولكنها موجودة أيضا داخل الطبقة المركزية المتحكمة. فقد ورد في جريدة الواشنطن بوست الأميركية في عدد 26 مايو 2014 مقال بعنوان: “تعيين نائب وريث للعرش يثير جدلا في المملكة العربية السعودية».

فرغم ترحيب الشعب بقرار تعيين الأمير مقرن بن عبدالعزيز وليُّ وليِّ العهد إلا أنه أثار امتعاض البعض في الأسرة الحاكمة لأن والدة الأمير مقرن جارية يمنية. وقد ذكر أحد المسؤولين الذي حرص على عدم ذكر اسمه حسب ما ورد في الصحيفة: «أن لا أحد يصدق أن مقرن سيصبح ملكا» وأنه “من المحتمل أن يكون مقرن أضعف ملك في التاريخ السعودي”، كما أكد “أنه ليس من أمراء الصف الأول في العائلة المالكة، ولا توجد لديه دائرة حلفاء يواجه بها مجموعة الأمراء الأقوياء”. لن أخوض في مدى مصداقية هذا الكلام الوارد في جريدة أجنبية، ولكنه لو صح فهو منتهى العنصرية والقبلية.

الامتعاض من هذا التعيين يثبت ضيق الأفق والعنصرية. فالأمير مقرن كان ضابطا برتبة عسكرية مرموقة، ثم أميرا لمنطقة حائل والمدينة المنورة، ثم رئيسا للاستخبارات العامة وهو قريب من الناس ولا يعرف الغطرسة، فالإمارة تتشرف به أكثر من تشرفه بها، وليت هؤلاء يتذكرون من هي زوجة سيدنا إبراهيم أم إسماعيل عليه السلام، ومن هي ماريا القبطية أم إبراهيم زوجة رسول الله.

شرح عبدالله الغذامي، الأكاديمي والناقد السعودي، الفرق بين القبيلة والقبائلية. فالقبيلة لها معنى إيجابي لأن لها «قيمة اجتماعية وثقافية»، أما القبائلية فهي «مصطلح غير محايد ومفهوم انحيازي وعرقي يقوم على الإقصاء والتمييز». ووضح سلبيات الطائفية والشعوبية. فالطائفية والمذهبية لهما مفهوم سلبي ويدلان على التمييز والتفريق، أما المذهب فهو انتماء ديني وعقيدي متوارث، وكذلك الشعوبية هي كلمة عنصرية إقصائية، بينما كلمة الشعب محايدة وطبيعية.

العنصرية موجودة بكافة أنواعها في المجتمعات العربية، فكما توجد القبلية والعرقية والطائفية، يوجد أيضا الكبرياء الطبقي، وقد لمسنا هذا واضحا في منتدى الإعلام العربي في دبي الذي انتظم في مايو الماضي عندما أثار ظهور السيدة المصرية البسيطة منى البحيري صاحبة كليب شت آب يور ماوس أوباما ” “Shut up your mouse (mouth) Obama جدلا واسعا وغضبا عند الكثيرين، لأن المنتدى ضم خيرة العقول والساسة والكفاءات الإعلامية العربية، حتى أن بعض المصريين ذكروا أن استضافتها تعتبر إهانة لمصر. وردت منى البحيري عندما اتهمت بالجهل من قبل أحد الحاضرين في المنتدى أنها ليست أمية بل متعلمة وتحمل دبلوم تجارة، وكونها إنسانة بسيطة ولا تجيد اللغة الإنجليزية بطلاقة فهذا لا يجعلها غير واعية بما حولها من أمور سياسية تتعلق بوطنها.

هذا الموقف ذكرني بالدراسة الميدانية التي أجريتها للنساء الريفيات في قرى جازان جنوب السعودية، وقد كنت أظن قبل ذهابي إلى تلك القرى أن الريفيات لن تكون لهن آراء مهمة في الإعلام وبرامج التلفزيون. وقبل سفري كنت أسمي غير المتعلمات ”الجاهلات أو الأميات” ولكن بعد مقابلتي لهن خجلت من هذه التسمية واستبدلتها بـ”غير المتعلمات أكاديميا” وأدركت في ذلك الحين مدى قصر نظري، فالمعلومات والتحليلات التي استفدتها منهن لم أسمعها من الجامعيات. أيقنت حينها أن هناك أنواعا أخرى من التعليم غير الأكاديمي مثل: التجربة، الحكمة، الأخلاق، الأصالة، والذكاء الفطري.

فالظروف وحدها هي التي جعلت هؤلاء النساء أقل حظا من غيرهن في عدم الحصول على شهادات وإجادة اللغات، ولو أتيحت لهن الفرصة لكن أفضل من سواهن. ولولا هذه الفرصة التي أتيحت لي والتي جعلتني أكتشف النساء الريفيات البسيطات لكنت من ضمن الحضور الذي امتعض من وجود إنسانة بسيطة مثل منى البحيري في منتدى إعلامي ضخم يستضيف نخبة المجتمع.

شرح الغذامي في كتاب “القبيلة والقبائلية” أن مشروع الحداثة هو مشروع ليبرالي عقلاني ظهر في أوروبا وبشكل أوسع في أميركا ليزيل الفروقات العرقية والدينية وليجسد قيما حضارية لصهر المجتمع في ما يسمى ”البوتقة الصاهرة”، التي تعني تذويب كل أطياف المجتمع في بوتقة واحدة.

ومع هذا كانت هناك إخفاقات في هذا الذوبان لأن العنصرية مازالت موجودة رغم نشر التعليم والرفاه ومفاهيم التسامح واحترام الآخر. إلا أن هذه الفروقات الطفيفة أفضل من الهويات العنصرية الأخرى التي لا تتقبل الآخر، والأفضلية فيها لا تكون على أساس الكفاءة بل على العرق أو المذهب وهو ما ليس للفرد ذنب فيه إلا أنه ولد بهذا الشكل. هذه “البوتقة الصاهرة” في أميركا كان أساسها تحقيق “الحلم الأميركي” القائم على تركيز الطموح والكفاءة الفردية.

مطالب الانتفاضات العربية لن تتحقق إذا كانت العنصرية والطائفية والطبقية مغروسة في المجتمعات العربية. لذلك على علماء الاجتماع وعلم النفس أن يضعوا أسسا لتحرير المجتمعات من هذا التفكير العنصري، لكي يكون التعويل على من يخدم هذه الأمة بصدق وإخلاص لتحقيق “الحلم العربي” لأن لا العرقية ولا الطبقية ولا القبلية ولا الطائفية ستحقق هذا الحلم الذي نتطلع إليه.

 

أكاديمية إعلامية سعودية

8