متفائل مع سبق الإصرار والترصد

يلومني الكثير من أصدقائي على استمرار تفاؤلي بقرب خروج العراق من حفرته العميقة التي سقط فيها منذ عام 2003. لكنني مصرّ على ذلك التفاؤل الذي لا ينطلق من فراغ ومن مجرد كوني شخصا متفائلا، بل يستند إلى تحوّلات نوعية كبيرة جرت في العراق والمنطقة والعالم وتجعل خروج البلد إلى مرحلة جديدة أمرا حتميا.
فرغم تقاطع النيران والصراعات الشرسة على مستقبل العراق، إلا أن مجرد وجود مخاض جدّي لخروج البلد من قبضة نفوذ إيران وميليشياتها هو إنجاز كبير من الطبيعي أن تواجهه عقبات كبيرة.
ليس سهلا أن يخرج بلد فاشل غارق في الفساد والمصالح القذرة، من هذه البئر العميقة ولا بد أن يكون مخاض الخروج منها بحجم الانحطاط الذي وقع في البلد.
ليتخيل أي منا حجم الورطة التي يمكن أن يقع فيها لو أنه هدد شخصا شريرا؟ فكيف تريدون أن يكون تهديد مصير ميليشيات تملك مئات آلاف المسلحين وتقف وراءها إيران المحاصرة، مجرد نزهة سهلة؟
جميع الأطراف المتصارعة على تشكيل الحكومة وضمنها تلك التي تنادي بإنهاء المحاصصة الطائفية، لديها درجات متباينة من الخوف من قرب نهاية مرحلة في العراق والمنطقة.
الجميع يحاول تقليل خسائره ومغادرة السفينة التي تقترب من الغرق ويبحث عن سفينة أخرى يمكن أن تنجو من العواصف خاصة بعد الإنذارات التي أرسلتها احتجاجات وسط وجنوب العراق.
حجم المخاض وتداعياته الحتمية يفرض تنازلات تكتيكية لاجتياز المراحل تدريجيا دون أن يحدث انهيار شامل وقد حدث ذلك مرارا.
لا أستغرب أن الكثير من العراقيين ما عادوا يخشون حدوث انهيار شامل بعد كل الذي ذاقوه في الأعوام الماضية، باستثناء المحافظات التي دمرها داعش والحرب عليه، لأنهم وحدهم يعرفون معنى الدمار الشامل.
في الأشهر الماضية اشتعلت تهديدات الجهات الخائفة من انهيار مصالحها ونفوذ إيران بعد إعلان نتائج الانتخابات. وتم حرق صناديق الاقتراع وفرض إعادة العدّ والفرز وتمترس طرفا الصراع على حافة الهاوية.
كادت العملية السياسية أن تنهار لولا تقديم تنازلات لعبور مفصل حاسم هو تثبيت النتائج رغم أنها سيئة وشابتها عمليات تزوير تفوق كثيرا كل ما جرى الحديث عنه. وكانت للميليشيات وإيران مصلحة كبرى في إلغائها، لكن الطرف الآخر انحنى قليلا للعاصفة وتمكّن من عبور تلك المرحلة.
ثم جاءت مرحلة فاصلة أخرى حين تشكّلت كتلة أغلبية معارضة للمحاصصة ومصالح الميليشيات وإيران، فقاموا بتسميم مياه البصرة ودفعوا الاحتجاجات إلى عنف يهدد بإحراق البلد.
ليس صدفة أن تفقد العملة الإيرانية ربع قيمتها فور إعلان تلك الأغلبية، ثم تتوقف عن الهبوط حين تم قطع طريق تشكيل الحكومة. نعم سمموا المياه ولم يقوموا فقط بقطع الروافد القادمة من إيران وتوجيه مياه المنازل والمخلفات الصناعية. ولوحوا بإرباك صادرات النفط العراقية لإنقاذ صادرات إيران التي بدأت بالانحدار مع قرب قطعها نهائيا بحلول فرض المرحلة الثانية من العقوبات الأميركية في نوفمبر القادم.
وبدأت رحلة أخرى من التطمينات من أجل عبور هذه المرحلة. كان منها انتخاب محمد الحلبوسي لرئاسة البرلمان من أجل تخفيف مخاوف رفع الحصانة عن الفاسدين، التي كانت ستكون أكبر لو تم انتخاب خالد العبيدي.
في كل الأحوال سيستمر المخاض الشاق لخروج العراق من نفوذ النظام الإيراني الذي يقترب من الانهيار. ولا أستبعد أن يحدث ذلك في أي لحظة قبل نهاية العام الحالي.
هذا الإصرار على عرقلة انتهاء نفوذ إيران في العراق هو دليل على أن الخطر حقيقي. وسينتهي حتما بتشكيل حكومة تبتعد ولو خطوات قليلة عن نفوذ إيران، وهي نقلة نوعية في إطار مخاض أكبر لدخول المنطقة في عهد جديد.
نعم أنا متفائل مع سبق الإصرار والترصد. التغيير قادم لا محالة وأتمنى ألاّ يكون بثمن باهظ.