مبروكة توغي من مكتب الوزارة إلى سجن الاحتياط

وزيرة ليبية شقيقها وزير تشادي سابق متهمة بالفساد.
السبت 2022/01/08
مفارقات كثيرة تدفع بوزراء إلى ما وراء القضبان

لم تكن الناشطة التبّاوية مبروكة توغي تنتظر أن تواجه الكثير من العقبات على درجة الوزارة في سلّم وظيفتها الحكومية، وأن يصل بها الأمر إلى الحبس الاحتياطي في سجن النساء بطرابلس حيث قضت رأس السنة الجديدة 2022 لكن المشهد الحكومي في ليبيا اعتاد على إفزار الكثير من المفارقات من بينها الدفع بوزراء إلى ما وراء القضبان، وهم لا يزالون قيد العمل الحكومي، وهو ما يرى فيه مراقبون محليون جانبا إيجابيا، باعتباره يدل على استقلالية القضاء وعدم نزوعه إلى انتظار أوامر السلطة التنفيذية.

 قرار مثير للجدل

في التاسع والعشرين من ديسمبر الماضي قرر النائب العام الصدّيق الصور حبس الوزيرة توغي بسبب قضايا تتعلق بالفساد المالي، وهو ما أثار جدلا واسعا في البلاد، حيث ناشد رئيس حكومة الوحدة الوطنية المؤقتة عبدالحميد الدبيبة النائب العام التعامل بحنكة في قضية الوزيرة، كما حدث في كثير من الحالات، ومعاملتها بخصوصية كونها امرأة.

واعتبر الدبيبة خلال اجتماع مجلس الوزراء أن ما حدث من توقيف الوزيرة “أمر يحتاج إلى التأني معه وعدم الاندفاع، لأننا أمام امرأة ليبية في كل الأحوال”، مضيفًا “قد تكون الوزيرة أخطأت أو اشتغلت مع أطراف أخرى في بعض الأعمال غير القانونية أو القانونية، لكننا ما زلنا في مرحلة تحقيق”.

قرار النيابة العامة في حق وزيرة الثقافة والتنمية المعرفية يأتي بعد أيام قليلة من قرارها بالحبس الاحتياطي في حق وزير التربية والتعليم موسى المقريف بعد استجوابه واتهامه بالإهمال والمحسوبية

كما رفض الدبيبة التعامل مع الوزيرة بطريقة غير لائقة حتى على مواقع التواصل الاجتماعي، مشيرا إلى أن هناك حملة ممنهجة لإفشال الحكومة بعد أن كانت موجهة لرئيس الحكومة في بداياتها، وهوما اعتبره جزء من الشارع الليبي دفاعا عن قيم أخلاقية واجتماعية متصلة بالتأكيد على ضرورة احترام المرأة وعدم التشهير بها والمساس بسمعتها، فيما رأى جزء آخر أن الدبيبة قد يكون فوجئ بحجم الفساد المنتشر في مفاصل حكومته والذي دفع بوزيرين إلى الحبس الاحتياطي خلال أسبوع واحد. ويعتقد محللون أن موقف رئيس الحكومة يتخذ جملة من الأبعاد المهمة من بينها العمل على كسب ود المرأة الليبية بإبرازها في صورة الواجهة الاجتماعية المشرفة التي لا يمكن السماح بالدفع بها إلى ما وراء القضبان، وتوجيه رسائل تضامن مهمة مع أسرة الوزيرة والأقلية التي تنتمي إليها وهي أقلية التبو ذات الامتدادات الواسعة في كل من تشاد والنيجر والسودان، ويبلغ عدد منتسبيها في ليبيا حوالي 120 ألف نسمة، كما انتقدت وزيرة العدل حليمة عبدالرحمن قرار النائب العام حبس زميلتها وزيرة الثقافة، وقالت إن الوزراء يتمتعون بحصانة، وأنه لم يتم التشاور معها، أو التحقيق الإداري معهم قبل حبسهم.

وتساءلت “هل قُدم طلب لرفع الحصانة عن الوزراء وفقا للقانون؟ هل تمت إحالة الوزراء إلى التحقيق الإداري قبل أن يثبت عليهم التحقيق الجنائي؟ هل تمت إجراءات وقفهم عن العمل وعرض الأمر على رئيس الوزراء؟”، مبينة أن هذه الإجراءات كلها يجب أن تسبق التحقيق والحبس الاحتياطي.

وأضافت الوزيرة “نريد توضيحا بشأن عملية القبض على وزيرة الثقافة، هناك إجراءات كثيرة كان من المفترض اتباعها قبل القبض عليها، والحبس الاحتياطي هو آخر الإجراءات التي يتخذها عضو النيابة المحقق”، لافتة إلى أن الحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية يكون خوفا من هروب المتهم أو هناك جريمة خطيرة تستدعي الحبس والتحفظ.

الوزيرة توغي تحصد تعاطفا كبيراً من قبل موظفي الوزارة الذين أكد بعضهم في بيان أنها اتخذت قرارا شجاعًا بإيقاف مسؤولين متورطين في الهيئة العامة السابقة للثقافة

وتم اعتبار موقف رئيس الحكومة ووزيرة العدل تدخلا مباشرا في قرارات النائب العام، وتوصية رسمية منهما بالإفراج عن الوزيرة توغي بعد أيام قليلة من حبسها الاحتياطي.

توغي من مواليد العام 1972 بمدينة سبها الواقعة إلى الجنوب من طرابلس بحوالي 750 كيلومترا، وهي عاصمة إقليم فزان التاريخي، وفيها درست المرحلتين الابتدائية والثانوية ثم اتجهت إلى دراسة العلوم الفيزيائية بجامعة سبها، ومن هناك انتمت إلى الأكاديمية الليبية للدراسات العليا في تخصص الفيزياء النووية، كما برزت بعد العام 2011 كناشطة في المجتمع المدني.

ولأسرة مبروكة حضور مهم في قبائل القرعان وعموم مجتمع التبو، وامتداد كبير في الجارة الجنوبية تشاد، حتى أن شقيقها هو القاضي يوسف توغويمي الذي كان وزيرا للعدل ثم للدفاع قبل انشقاقه عن النظام التشادي في العام 1999، والذي اتجه إلى مقاطعة تيبستي في أقصى الشمال الغربي للبلاد، حيث ملتقى الحدود مع ليبيا والنيجر، وهناك أسس فصيلا مسلحا وهو حركة “من أجل الديمقراطية والعدالة” وخاض مواجهات دامية مع القوات الحكومية ووجد دعما من أبناء جلدته. وفي التاسع والعشرين من أغسطس 2002 تلقى توغويمي إصابة بالغة عندما تعرض لانفجار لغم أرضي بالقرب من مدينة برادي عاصمة المقاطعة، وتم نقله إلى طرابلس لتلقي العلاج، قبل أن يعلن عن وفاته في السابع والعشرين من سبتمبر من العام ذاته، ويدفن في العاصمة الليبية بأمر من العقيد الراحل معمر القذافي.

مد الجسور وتحطيمها

تكليف توغي بوزارة الثقافة تعرض إلى الكثير من الانتقادات الحادة في ليبيا نظرا إلى أنها قادمة من خارج الوسط الثقافي
تكليف توغي بوزارة الثقافة تعرض إلى الكثير من الانتقادات الحادة في ليبيا نظرا إلى أنها قادمة من خارج الوسط الثقافي

وعندما بدأ الدبيبة في اختيار أعضاء حكومته الجديدة بعد انتخابه من داخل ملتقى الحوار السياسي بجنيف في الخامس من فبراير الماضي، وجد أنه من الممكن أن يضرب عصفورين بحجر واحد، استرضاء العنصر النسائي وأقلية التبو معا من خلال تكليف سيدة تبّاوية بحقيبة الثقافة والتنمية المعرفية.

ورغم أن ضغوطا أممية ومن منظمات المجتمع المدني بالداخل كانت قد سلطت من أجل الارتقاء بمستوى تمثيل المرأة بنسبة 30 في المئة من مجمل أعضاء السلطات التنفيذية الجديدة، إلا أن الحضور النسوي في حكومة الدبيبة بلغ نسبة 15 في المئة، وذلك لأول مرة في تاريخ الحكومات المتعاقبة بالبلاد، فقد حصلت 5 ليبيات على ثقة الدبيبة ومجلس النواب وهن وزيرة الخارجية والتعاون الدولي نجلاء محمد المنقوش، ووزيرة العدل حليمة إبراهيم عبدالرحمن، ووزيرة الشؤون الاجتماعية وفاء أبوبكر محمد الكيلاني، ووزيرة الثقافة والتنمية المعرفية توغي ووزيرة الدولة لشؤون المرأة حورية خليفة ميلود.

 بعد أشهر من توليها المسؤولية الحكومية، تحدثت توغي عن “مد جسور التواصل مع المثقفين والأدباء والكتاب والفنانين، من أجل تعزيز الحركة الثقافية، والعمل على مراجعة ومتابعة كل البرامج السابقة، وتشكيل فرق عمل لتطوير البرنامج العام، لتأسيس أرضية ثقافية على أسس صحيحة، وبناء استراتيجية عمل قابلة للتنفيذ في المجال الثقافي”، وأكدت أن “مسؤولية الوزارة وواجبها نبذ التخلف، والسير قدما في طريق الديمقراطية والعدل والمساواة”، مشددةً على أن “الثقافة الليبية لا تفرق بين المرأة والرجل، وتعوّل على انسجام المجتمع في إنجاز مهام العمل لمواجهة كل التحديات والمشاكل”.

 وأردفت “أولينا اهتماما كبيرا باستعادة دور المثقف في المشهد الليبي الذي هو موضوع الخطط والبرامج من خلال المشروع الحضاري الذي تعمل عليه الوزارة حاليا، وهو الاهتمام بالإنسان وبالمجتمع عامة نحو الارتقاء بثقافة المجتمع” وفق تعبيرها، مشيرة إلى “دور وزارة الثقافة في إعادة توثيق العلاقة بين أفراد الشعب على أساس التسامح والاحترام والمساهمة في إعادة اللحمة الوطنية ضمن إطار دور الثقافة والمثقفين”.

تكليف وزير الدولة للشؤون الاقتصادية سلامة الغويل بتسيير مهام وزارة الثقافة بعد إيقاف توغي صدر بعد يوم واحد من قرار الإفراج عنها من سجن الاحتياط، ما يوحي بأن الإفراج كان مؤقتا ولا يعني تبرئتها من التهم التي تلاحقها

تعرض تكليف توغي بوزارة الثقافة إلى الكثير من الانتقادات الحادة في ليبيا، نظرا إلى أنها قادمة من خارج الوسط الثقافي، وغير مطلعة على خصوصيات المشهد الثقافي الداخلي، ويمكن أن تكون ضحية للابتزاز والاستغلال من داخل الإدارة العميقة بالوزارة ذاتها، أو من لوبيات الفساد المتمركزة داخل المؤسسات الحكومية منذ سنوات طويلة.

وعندما قرر النائب العام في أواخر ديسمبر الماضي حبس الوزيرة احتياطيا على ذمة التحقيق في وقائع فساد، أعاد القرار إلى تعاقدات أبرمت على تنفيذ أعمال صيانة مبنى دار الكتاب والنشر، وقاعة الاجتماعات بالوزارة، والدوار المروري المنشأ أمام مبنى الوزارة، رغم قيام الوزارة بصيانة الأبنية والمنشآت المشار إليها خلال السنة الماضية معتمدة في تغطية أوجه الصرف الأخيرة على المستندات المعتمدة عند تنفيذ التعاقد السابق.

ومن خلال المعطيات المتوفرة، فإن الوزيرة أقالت مديرة مكتب المراجعة الداخلية فدوى دوزان من منصبها بسبب امتناعها عن توقيع إجراءات مالية مخالفة للقانون منها صك بقيمة 450 ألف دينار لفائدة شركة “الرواد” للمقاولات التي قال مسؤولوها إنها قامت بصيانة مبنى دار الكتاب النشر الواقع في شارع عمر المختار بوسط طرابلس، رغم أن المبنى ذاته قد تمت صيانته في العام 2019 بنفس البنود والشروط المتفق عليها في عهد الوزير السابق حسن ونيس وهو ما يعتبر خرقا للقوانين وتجاوزا للائحة العقود الإدارية المعتمدة.

كما تبين أن مديرة مكتب المراجعة رفضت كذلك التوقيع على معاملة ثانية بقيمة 500 ألف دينار لشركة البشرى للتعهدات والخدمات التموينية تم إدراجها على حساب الطوارئ الذي لا يسمح عادة بالصرف إلا للاحتياجات الضرورية لسير عمل الوزارة حسب ما ورد في التفويض المالي، كما رفضت تمرير معاملة ثالثة بقيمة 183.441 دينار ليبي لنفس السبب.

صراعات خفية

موقف الدبيبة من حبس توغي يهدف إلى كسب ود المرأة الليبية وتوجيه رسائل تضامن مهمة مع الأقلية التي تنتمي إليها
موقف الدبيبة من حبس توغي يهدف إلى كسب ود المرأة الليبية وتوجيه رسائل تضامن مهمة مع الأقلية التي تنتمي إليها

وجاء في بيان مكتب النائب العام أنه و”إزاء البلاغات المقدمة في مواجهة عدد من موظفي وزارة الثقافة والتنمية المعرفية التي أشير في متنها إلى عدد من وقائع الفساد التي شابت الأعمال الإدارية والمالية المنجزة بمعرفتهم، ومنها قيامهم بالتعاقد على تنفيذ أعمال صيانة مبنى دار الكتاب والنشر، وقاعة الاجتماعات بالوزارة، والدوار المروري المنشأ أمام مبنى الوزارة، على الرغم من قيام الوزارة بصيانة الأبنية والمنشآت المشار إليها خلال السنة الماضية معتمدة في تغطية أوجه الصرف الأخيرة على المستندات المعتمدة عند تنفيذ التعاقد السابق”.

وتابع البيان أن النائب العام وجه باستعجال إنجاز إجراءات التحقيق التي من شأنها استيلاء حقيقة الواقع وتحديد المسؤولية المترتبة عنه، وإجراءً للتعليمات الصادرة بالخصوص أنجز وكيل النيابة المحقق إجراء الاطلاع على المستندات والوثائق المالية والإدارية والتدقيق في مدى سلامتها الإجرائية وتوافقها مع التشريعات الناظمة لأوجه صرف المال العام؛ واتخذ جملة من الإجراءات الأخرى كان آخرها استجواب السيدة وزير الثقافة والتنمية المعرفية، وانتهت النيابة العامة إلى الأمر بحبسها احتياطيا على ذمة القضية بعد أن تكشف لها صحة ارتكاب الوقائع وقيام أركان جرائم الحصول على منافع بالمخالفة للقوانين واللوائح التي تحيط المال العام بالحماية، وصرف المال العام في غير الوجه المخصص له، وتزوير المستندات الرسمية لغرض تعقيد إجراءات مراجعة وتتبع أوجه صرف المال العام.

وجاء قرار النيابة العامة في حق وزيرة الثقافة والتنمية المعرفية بعد أيام قليلة من قرارها بالحبس الاحتياطي في حق وزير التربية والتعليم موسى المقريف بعد استجوابه واتهامه بالإهمال والمحسوبية في أزمة تأخر طباعة الكتاب المدرسي.

شقيق توغي هو القاضي يوسف توغويمي الذي كان وزيرا للعدل ثم للدفاع قبل انشقاقه عن النظام التشادي، وقد توفي بعد تعرضه لانفجار لغم أرضي، ودفن في العاصمة الليبية بأمر من القذافي

ووجدت توغي تعاطفا من قبل موظفي الوزارة الذين أكد بعضهم في بيان أن الوزيرة اتخذت قرارا شجاعًا بإيقاف كل الأسماء الواردة في مذكرة الرقابة الإدارية التي تشير إلى تورط مسؤولين في الهيئة العامة للثقافة (السابقة) من بينهم فدوى محمد دوزان مديرة مكتب المراجعة وحسن ونيس الرئيس السابق لهيئة الثقافة الذي كان يقوم مقام وزير الثقافة، وأنها توجهت إلى مكتب النائب العام لتقديم الإفادات اللازمة بالتهم الموجهة إلى الوزارة من قبل خيري مختار الراندي الوكيل الشؤون العامة بالوزارة. إلا أنها فوجئت بتوقيفها وإحالتها إلى السجن الاحتياطي دون اعتبار للتوضيحات التي جاءت بشأنها. كما ورد في البيان أن وزارة الثقافة والتنمية المعرفية ومنذ استحداثها لم تخصص لها أي ميزانية، وهو ما يشير إلى تعمد إهمال دور الثقافة من قبل الحكومات المتعاقبة ولاسيما منذ العام 2011 حيث تخضع الوزارة إلى سلطة أقرب ما تكون إلى نظام الميليشيات بغطاء الولاءات الفئوية والجهوية والقبلية والشخصية.

في الثالث من يناير 2022 أصدر الدبيبة قرارا بتكليف وزير الدولة للشؤون الاقتصادية سلامة الغويل بتسيير مهام وزارة الثقافة والتنمية المعرفية بعد إيقاف الوزيرة توغي حتى إشعار آخر.

واللافت في هذا التكليف أنه صدر بعد يوم من قرار الإفراج عن الوزيرة توغي من سجن الاحتياط، وهو ما جعل متابعين للشأن الحكومي يرون أن الإفراج كان مؤقتا ولا يعني تبرئة للوزيرة من التهم التي تلاحقها بخصوص إهدار المال، مشيرين إلى أن مكتب النائب العام لم يعلن رسميا عن قراره بالإفراج عن مبروكة توغي ولم يقدم حيثيات بذلك كما تعود أن يفعل.

12