مبالغات العراقيين تساعد الفاسدين

الثلاثاء 2016/08/02

للأسف معظم حديث الغاضبين والنشطاء الذين يريدون محاسبة الفساد يستند إلى أوهام ومبالغات، ومن النادر أن يتطرق إلى قضايا محددة بالأرقام والأدلة الدامغة. بل إن وسائل الإعلام أيضا تتحدث يوميا ومنذ سنوات عن أن الفاسدين سرقوا تريليون دولار، دون تقديم أدلة وأرقام موثقة.

تلك الأحاديث المجانية تساهم في استمرار الفساد وإفلاتهم من المحاسبة، لأن المسؤول الفاسد الذي سرق 20 أو 50 أو 100 مليون دولار، سيطربه الحديث عن أنه سرق 8 مليارات دولار، وسيسخر من الاتهامات ويدحضها بسهولة.

ليس هناك من شك في أن تلك المبالغات تساعد الفاسدين على مواصلة سرقاتهم وربما بعناية أكبر، متجاهلين الصراخ والاتهامات الخالية من المضمون والأدلة، لأنها سخيفة ولا تقترب من أسرار ملاعبهم المريبة.

أكبر دليل على ذلك أن جميع الفاسدين ووسائل الإعلام التي يمولونها انضمت إلى تلك الجوقة وأصبحت تتحدث عن أرقام الفساد الهائلة والمقدسة، لأنهم أدركوا أن تسخيف الحديث عن الفساد بنشر الأوهام يساعدهم على الإفلات من المحاسبة.

هناك شبه إجماع بين النشطاء ووسائل الإعلام على أن المسؤولين الفاسدين سرقوا ألف مليار دولار من أموال العراق منذ عام 2003، وأصبح هذا الرقم مقدسا لا يقبل النقاش، وهم بذلك يعمقون الجريمة ويساهمون في إفلات الفاسدين، بعدم مطاردتهم للأدلة الدامغة والأرقام الدقيقة.

يمكن القول بعناية تامة تستند إلى جميع موازنات العراق منذ العام 2003، بأن مجموع الإنفاق فيها يبلغ نحو 850 مليار دولار. وينبغي القول أيضا إن معظم تلك المبالغ ذهب إلى الموازنة التشغيلية لدفع رواتب جيش الموظفين، الذي يصل حاليا إلى نحو 7 ملايين موظف ومتقاعد.

إذا أردنا وضع تقديرات لحجم الصفقات في مجموع الموازنات الاستثمارية والعقود المتفرعة من الموازنات التشغيلية، فإنها تصل في أقصى تقدير إلى 200 مليار دولار وهو مبلغ هائل، يكفي لإعادة إعمار البلاد!

من ضمن ذلك المبلغ، هناك أيضا ثقوب سوداء في الموازنات العراقية تصل قيمتها إلى عشرات المليارات من الدولارات، تم صرفها دون تقديم وثائق في الحسابات الختامية للموازنات، ويمكن تعقبها بسهولة، ولكن فقط بعد قيام حكومة مدنية مسؤولة ولا تخاف من شبح الميليشيات.

هناك على سبيل المثال منشور شائع “يؤكد” بجدول تفصيلي أن أحد نواب المالكي يملك حاليا 8 مليارات دولار، بعد أن كان مشردا في لندن قبل عام 2003، وها هو قد أفلت من أي محاسبة بعد إقالته، لأن الاتهامات كانت سخيفة وغير واقعية. أما كان من الأفضل التركيز على كل ألف دولار تم تبديدها في الصفقات التي كان على علاقة بها، بدل كيل الاتهامات المجانية التي ساعدته على الإفلات من المحاسبة؟

العجيب أن البعض سيتهم حرصي هذا على تحري الدقة والاستناد إلى الوثائق في مطاردة الفاسدين، وقد يعتبره دفاعا عن الفاسدين! لأن هذا الكلام يمس أرقام الفساد المقدسة التي أصبح المساس بها خيانة للوطن.

قبل أيام كتبت إحدى الناشطات على الفيسبوك أن الفساد نهب تريليون دولار، وأن توزيعها على العراقيين يعني أن حصة كل فرد تبلغ 28 مليون دولار! وقد جن جنونها حين قلت إن تقسيم تريليون دولار على 35 مليون نسمة يساوي 28 ألف دولار. واعتبرت العملية الحسابية البسيطة خيانة للوطن.

علينا أولا أن نقول إن سرقة أي دولار أو دينار دون حق هو جريمة، وأن على الحريصين على محاربة الفساد أن يوجهوا طاقاتهم للبحث عن الأدلة والوثائق والحديث عن صفقات محددة بالأرقام لكي يساهموا في محاربة الفاسدين ومطاردتهم.

للأسف فإن الحقيقة المرة تقول إن العراق لن يتمكن من استرجاع تلك الأرقام المقدسة، رغم أنه بالإمكان مطاردة بعض الأموال المرتبطة بالسياسيين العراقيين وبعض الحوالات المالية المرتبطة ببعض العقود، لكنها لن تزيد على عشرات المليارات من الدولارات.

السبب الرئيسي لضياع معظم أموال العراق هو وصول طبقة سياسية غير مهنية، كانت تشعر بالخطر من الكفاءات المهنية، وشنت حربا شاملة لإقصائهم وكذلك إقصاء كل من لا يتورط معهم في الفساد من جميع أجهزة الدولة.

ونتيجة غياب المهنية عن العمل الحكومي، تم إحراق مليارات الدولارات من أموال العقود في مطحنة عبثية ومشاريع عشوائية، بنيت خصيصا لتسريب الأموال إلى المسؤولين الفاسدين.

تلك العقود لا تقتصر على المشاريع الكبرى، التي خصصت لبعضها أضعاف التكلفة العادلة من أجل أن تبحث الشركة عن وسيلة لمنح المسؤول نسبة من قيمة العقود. وعلى سبيل المثال، منح عقد بقيمة 6 مليارات دولار لشركة أجنبية مغمورة لبناء مصفاة للنفط، تبلغ قيمة إنشائها العادلة نحو ملياري دولار، من أجل أن يحصل المسؤولون على عشرات الملايين من ذلك العقد.

وهناك ثقب أسود آخر، هو آلاف العقود المتوسطة والصغيرة لتجميل الأرصفة والشوارع، والتي لن نجد لها أثرا في المستقبل من أجل استعادة الأموال المنهوبة بعد أن مر عليها الخراب والانفجارات.

كل ذلك لا يبرر محاولات مضاعفة الأرقام في جرائم الفساد لأنها لا تزيد من إدانة المتهمين، بل إن المبالغة وعدم الدقة تساعدان الفاسدين على الإفلات من المحاسبة.

كاتب عراقي

11