ما وراء الحكايات

الاثنين 2015/10/19

يصبو الأدباء إلى شحذ انتباه القرّاء للتمعّن في الحكايات التي يروونها، بغية دفعهم إلى التعمّق فيها، وإثارة الأسئلة والسجالات عن مضامينها وشيفراتها، ومحاولة التحريض على استقاء العبر منها. أي يكون لكلّ حكاية ما وراءها.

بالانطلاق من مقولة “وراء الأكمة ما وراءها”، يمكن القول وراء الحكاية ما وراءها، أو لكلّ حكاية حكايات تسبقها وأخرى تتبعها، وهنا تصبح الحكاية كائنا أدبيّا قائما بذاته، له سيرة وسيرورة، ويكون الانتقال بين القرّاء بمثابة البقاء في دائرة التأثير والحضّ على التغيير.

يحاول الأدباء مقاربة بعض الأفكار التي أثرت في حياتهم، وشكلت منظومتهم الفكرية، وقادتهم في دروبهم العملية، ورسمت خرائط تحرّكهم الحياتية، ليكتبوا حكاياتهم، وبذلك تكون الحالات الكامنة ما وراء الحكايات هي الدافعة لها، والمحرّضة عليها.

هل من علاقة بين الحكايات التي يحكيها الأدباء والحقائق التي يؤمنون بها؟ إلى أيّ حدّ تحدّد الحكايات مسارها وتختار سيرتها الخاصة بالقرّاء؟ ما السبيل لتحتفظ الحكايات بألقها عبر الزمن وتكتسب الأصالة والرسوخ؟ ألا تثير الحكايات التساؤلات عن فحاواها؟ هل يمكن القول إن الأساطير المرويّة، سواء كانت دينية أو تاريخيّة، عبارة عن حكايات أضفيت عليها القداسة؟

يشير الأرجنتيني جورج بوكاي في حكايته “الحقائق الثلاث” إلى أن كلا منا عاش يبحث عن الحقيقة، وفي طريقنا وجدنا العديد من الأفكار التي استهوتنا وسكنتنا بما يكفي من قوة بحيث تؤثر على منظومة معتقداتنا. وأننا مع ذلك انتهينا إلى استبعاد الكثير من الحقائق، لأنها لم تتحمل تساؤلاتنا الداخلية، أو لأن “حقيقة جديدة” متناقضة مع تلك الحقائق كانت تتنافس بداخلنا في الحيز نفسه، أو ببساطة لأن تلك الحقائق لم تعد كذلك.

يعتبر بوكاي أن هذه الحقائق بالنسبة إليه لا تزال تثبت صحتها على مرّ الزمن واختلاف الظروف، وهي مفاهيم غير متعلقة بلحظات محددة، بل بكل اللحظات التي نطلق عليها في مجملها عادة لفظ “حياتنا”. ويحدد دورا لكل حقيقة، فالحقائق التي يصفها بالجبال تكون كي نستطيع أن نبني منزلنا فوق قاعدة صلبة. والحقائق الأنهار كي نستطيع أن نروي عطشنا ونسبح فيها باحثين عن آفاق جديدة. أمّا الحقائق النجوم، فلكي تكون دليلنا في الليالي الأكثر ظلمة.

يسعى معظم الأدباء إلى جعل نصوصهم وحكاياتهم حقائق باعثة على التفكير، ومداخل للتدبّر، ومحفّزات للتغيير نحو الأفضل، انطلاقا من الإدراك بأن الإنسان يستطيع استغلال الطاقات الكامنة لديه ليكون أكثر تصالحا مع نفسه ومحيطه، ومتقبلا لذاته وعالمه، باحثا عن السلام والطمأنينة والرضا عنه، متعرّفا إلى الحكايات وما وراءها، ومتحرّرا ممّا يحيط بها من لبس وعنف وقداسة.

كاتب من سوريا

15