ما السبيل إلى بناء اقتصاد وطني بديل

البدائل الاقتصادية الوطنية الشعبية القابلة للتطبيق تتطلب توفُّر ظروف تُمكّن من تأسيسها واستدامتها. ويمكن لحكومة مستقلة خاضعة للمساءلة أن تضمن مؤسسات داعمة، بما يشمل القوانين.
غالبا ما كانت العولمة تعني في الجنوب العالمي تجدد الهيمنة الأجنبية. ورغم أن الهيمنة الأجنبية تعود إلى العصر الإمبريالي، إلا أنها أصبحت أكثر غموضا بعد الاستعمار، مما يصعب التنظيم ضدها.
من هنا تصبح السيادة والاستقلال الوطنيين أساسيين لتطوير وإدامة البدائل الاقتصادية الشعبية القابلة للتطبيق. وهذا ما يتطلب معالجة الحقائق المعاصرة. كما قد تتوفر بعض الفرص غير المتوقعة من التحديات الجديدة التي نواجهها.
لذا يتوجب الحفاظ على التعاون بين القوى الاجتماعية الوطنية المهمة لبلوغ بديل يحظى بالشعبية والاستمرار. حيث يعتبر التفاوض على هذا التعاون والحفاظ عليه وتعزيزه و”تحديثه” من الأمور الضرورية لتعزيز المصالح الوطنية الشعبية. ويتحول هذا إلى تحد حين لا يكون المشاركون متساوين، وحين تهيمن القوى التي تعتمد عادة عبر المؤسسات الأكثر نفوذا.
◙ أسواق العقود الآجلة كانت تقلل من تقلبات أسعار السلع الأساسية، إلا أن الآثار المترتبة على ذلك كانت مدمرة خلال الآونة الأخيرة
كثيرون يعرفون أن هذه الهيمنة تُمارس عبر الأصول الاقتصادية. لكنها تشمل بشكل متزايد السيطرة على وسائل الاتصال الرئيسية، حيث يعاد تشكيل الخطابات العامة العالمية، حتى في المؤسسات متعددة الأطراف.
منتدى دافوس الاقتصادي العالمي الذي تهيمن عليه الشركات يضع، على سبيل المثال، جداول أعمال للمؤتمرات متعددة الأطراف لصالح “أسياد الكون”. وهذا يفسر حضور أكثر من سبعين رئيس حكومة ودولة في مؤتمره الأخير، وهو ما تجاوز الجلسة العامة للأمم المتحدة.
فهل يمكن أن يحسّن تطوير وسائل اتصال بديلة تشكيل خطاباتنا، حيث نادرا ما تتوافق مصالحنا مع مصالح أصحاب السلطة؟
كاتارينا بيستور، أستاذة القانون في جامعة كولومبيا، أبرزت أن القانون غير محايد ولكنه ضروري لعمل الرأسمالية. ويمنح وضع القواعد وإنفاذها امتيازات للمصالح التي تشكلها.
الأقوياء يضعون القانون لإضفاء الشرعية على مصالحهم وممارساتهم. ويُذكر مثال إنفاذ العقود وحقوق الملكية وغير ذلك. كما يحدد الإطار القانوني حياتنا، وما يعتبر فيها قانونيا وغير قانوني، ومشروعا وغير مشروع.
الدراسة التي أجرتها اللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، برئاسة رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو مبيكي، أقرت أن العديد من الممارسات غير المشروعة ليست غير قانونية. وتشمل هذه التدفقات المالية الهائلة غير المشروعة جل بلدان الجنوب العالمي.
وتفاقم هذا النزيف خلال العقود الأخيرة مع تنافس البلدان النامية على جذب الاستثمارات الأجنبية. وفتحت حساباتها الرأسمالية خلال العقود الأخيرة، مصدّقة خطابات الاقتصاديين الذين ادعوا أن التمويل سوف يتدفق بعد ذلك “إلى أسفل” نحوها. لكنه أصبح يتدفق “صعودا” من الدول “الفقيرة من رأس المال” إلى الدول “الغنية برأس المال”.
◙ يتوجب الحفاظ على التعاون بين القوى الاجتماعية الوطنية المهمة لبلوغ بديل يحظى بالشعبية والاستمرار
التمويل أحدث تحولات في الاقتصاديات والمجتمعات خلال العقود الأخيرة، وكان نفوذ هذه المصالح المتزايد سببا في تقييد قدرة السلطات النقدية والمالية الوطنية على إدارة أسعار الفائدة والصرف.
وتعدّ الحكومات والمؤسسات المالية متعددة الأطراف الوحيدة التي تستطيع وضع ترتيبات تمكن من ضمان التمويل الميسر على أساس تفضيلي. كما يمكن أن يساعد الإدماج والمساءلة في ضمان خدمة الحكومات الأفضل للمصلحة العامة.
اللجنة المستقلة لإصلاح ضرائب الشركات الدولية أوصت بحد أدنى لمعدل ضريبة دخل الشركات العالمية بنسبة 25 في المئة. واقترحت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين نسبة 21 في المئة (المعدل الأميركي الحالي) للحد من المعارضة السياسية في واشنطن، لكن رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون خفّض هذه النسبة إلى 15 في المئة في اجتماع مجموعة السبع الذي استضافه.
ويبدو أن الإطار الشامل لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية ومجموعة العشرين لمكافحة تآكل القاعدة الضريبية وتحويل الأرباح يشارك وجهة نظر منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي القائلة بأن هذه الإيرادات الضريبية يُوزعها البلد المروّج، وليس المنتج.
الدول النامية هي الخاسرة هنا، فهي عمومًا تنتج أكثر بكثير مما يمكنها تحمل استهلاكه. ومع تشكيل النصائح الأجنبية لسياسات الدول النامية، فقد انخفضت معدلات الضرائب وحصص الإيرادات من الإنتاج لعقود. ومن ثم، تعتقد الدول المديونة أن عليها خفض الإنفاق الحكومي.
لذا ليس مفاجئا أن تدعم جل البلدان النامية قرار المجموعة الأفريقية بجعل الأمم المتحدة الهيئة الشرعية الوحيدة للتعاون الضريبي الدولي، بما يقوض ادعاءات الإطار الشامل.
◙ رغم أن الهيمنة الأجنبية تعود إلى العصر الإمبريالي، إلا أنها أصبحت أكثر غموضا بعد الاستعمار، مما يصعب التنظيم ضدها
من هذا المنطلق، تحرير التجارة يعتبر هنا سيفا ذا حدين. حيث يمكن أن يعزز الصادرات لجمع المزيد من النقد الأجنبي ولكنه على سبيل المثال، يدمر القدرات الاقتصادية للتصنيع والأمن الغذائي.
البلدان الغنية (بما في ذلك الولايات المتحدة، أكبر مصدر زراعي في العالم) حافظت على دعم إنتاج الغذاء بدعم حكومي باعتماد الحماية والإعانات. وبينما سمحت مثل هذه الإعانات والحماية في الدول الغنية، منعت البلدان النامية من استغلال التعريفات لتحقيق أمنها الغذائي.
وتدعم الولايات المتحدة إنتاج زيت الذرة لصنع الإيثانول الحيوي. كما تدعم شراب الذرة وعلف الدجاج. لذلك قضت صادرات الدجاج الأميركية على العديد من مربّي الدواجن في جميع أنحاء العالم.
أسعار المواد الغذائية ارتفعت لعدة أشهر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وأبرزت جاياتي غوش أستاذة الاقتصاد في جامعة ماساتشوستس في أمهيرست بالولايات المتحدة، أن هذا الارتفاع في الأسعار يعود إلى المضاربة والتلاعب بالأسعار، وليس سببه انقطاع الإمدادات في زمن الحرب.
أسواق العقود الآجلة كانت تقلل من تقلبات أسعار السلع الأساسية، إلا أن الآثار المترتبة على ذلك كانت مدمرة خلال الآونة الأخيرة. ويرجع ذلك إلى طبيعة أسواق السلع المتغيرة والعقود الآجلة والخيارات، خاصة مع المضاربة المالية المبرمجة الضخمة التي تعتمد الخوارزميات والذكاء الاصطناعي.