ما الذي يدفع رجال القانون إلى كتابة الأدب

يبدو العدل الغائب مسارا أزليا في طريق الأدب العالمي. فكل وجع إنساني، أو ظلم حادث أو حق منتقص، يمثل دافعا قويا إلى الحكي وتحريضا صريحا على الكتابة بحثا عن راحة ضمائر تنشد العدل وتنحاز إليه. وربما هذا الدافع كان وراء انخراط الكثير من رجال القانون العرب في كتابة السرد قصصا وروايات.
ليس أقوى تأثيرا من حكايات لها أصول واقعية شهدها كاتبوها بصفات أخرى غير صفة السارد والمُتخيل والأديب مثلما هو الحال مع شهود المحاكم ومتابعي عالم الجريمة من رجال قضاء ومحامين.
يبصر هؤلاء اختلالات العدل في الحياة ويتابعونها عن كثب فتؤثر فيهم ويتفاعلون معها إذا ملكوا حس الإبداع الروائي، ليُعبروا عما عايشوه فيخرج أدبا واقعيا.
احتكاك حياتي
لم يكن مفتعلا ما قدمه الأديب الراحل توفيق الحكيم من وقائع حياة طبيعية لرجل نيابة في بيئة ريفية بسيطة يتغلغل فيها الشر وتحكمها القسوة في روايته “يوميات نائب في الأرياف” منذ عقود طويلة، ذلك أنه عاش التجربة ذاتها عندما عمل بالفعل وكيلا للنيابة في بعض قرى مصر خلال حقبة الثلاثينات من القرن الماضي وقبيل ممارسته الكتابة الأدبية.
مثل هذا التوجه اتسع في الآونة الأخيرة، حيث قدمت الساحة الأدبية المصرية العديد من نماذج رجال القانون الذين احترفوا الأدب وقدموا صورا متطورة ومتقاربة لعوالم بدت غريبة عن غير المتابعين لعالم الجريمة، ما طرح تساؤلا مهما عما إذا كان ذلك التوجه يمثل سعيا وبحثا عن عدالة مفتقدة في الواقع أم يمثل استثمارا لخبرات متراكمة نتيجة مقاربة دراما واقعية غريبة.
اتسع الجدل الدائر في هذا الشأن كثيرا مع إطلالات عديدة لأجيال مختلفة من المبدعين القادمين من خلفيات قانونية رأوا أن الأدب يمكن أن يستفيد من المتابعة الحياتية لمن هم على مقربة من عالم القانون.
تضمنت الإطلالات الأخيرة عدة أسماء أبرزها أشرف العشماوي وأدهم العبودي وأحمد صبري أبوالفتوح من مصر، وبهاء الطود من المغرب، ومحمد الطاهر من سوريا، والمنوبي زيود من تونس، وإسلام حيدر من الأردن.
يفسر البعض موجة انخراط عدد كبير من القانونيين في الإبداع الروائي باحتكاكهم بقصص إنسانية مدهشة تستحق الحكي في ظل وجود مواهب إبداعية لديهم.
وفقا لتصريح سابق للروائي الأردني إسلام حيدر فإن الحكاية هي التي تنتقي كاتبها، وتدور حول الروائي المناسب لتتمثل أمامه وكأنها تدعوه إلى أن يكتبها.
البعض يفسر موجة انخراط عدد كبير من القانونيين في الإبداع الروائي باحتكاكهم بقصص إنسانية مدهشة تستحق الحكي
في أروقة المحاكم يلتقي المحامون والقضاة مباشرة بالحكايات المُدهشة، فإن كان أي منهم لديه موهبة الكتابة يتقبل دعوة الحكايات ويُلبيها، وفي أحيان أخرى يتعايش مع أبطالها ويتورط في تفاصيلها ويتعرف على وجوه أخرى ربما تكون خافية على بعض البشر.
ويؤكد الروائي المصري أشرف العشماوي، الذي يعمل في السلك القضائي، أن أغلب رجال القانون لديهم ما يقولونه عن دواخل الشخصيات الإنسانية، فهم يشتركون مع الأطباء في التعامل مع شخصيات متنوعة وشديدة الاختلاف في آن واحد، وربما يقتربون من تلك الشخصيات في لحظات مكاشفة وضعف إنساني قد لا تتوفر لغيرهم.
ويقول العشماوي لـ“العرب” إن الأدب موهبة في الأساس؛ فإذا توافرت موهبة فن الحكي والقدرة على بناء الرواية وامتلاك حيلة الكتابة لدى رجال القانون فإنهم سيكتبون روايات بديعة ومحكمة. والعمل في مجال القضاء والاقتراب من قصص البشر الحقيقية يصقلان العمل السردي، لكن ذلك لا يكسر أساس الإبداع وهو امتلاك الأدباء القانونيين أنفسهم للموهبة أولا وثانيا وعاشرا.
يحسب البعض أن الروائي صاحب الخلفية القانونية يحسن الكتابة في حقل أدب الجريمة فقط، غير أن استعراضا واضحا لتاريخ مساهمات الأدباء القانونيين يؤكد أن الكثير من الأعمال اللامعة التي أنجزها هؤلاء لا علاقة لها بأدب الجريمة.
صحيح أن هناك روائيين متمرسين بالأدب البوليسي لاشتغالهم في مجال المحاماة مثل الروائي المغربي الراحل ميلود حمدوشي الذي نعته البعض بحلّال الألغاز البوليسية، لكنّ ثمة محامين مبدعين لم يكتبوا حرفا في مجال الأدب البوليسي واكتفوا برسم صور إنسانية عذبة مثل الروائي المصري حسين عبدالعليم صاحب الرواية الشهيرة “المواطن ويصا عبد النور”.
ويشير أشرف العشماوي إلى أن معايشة الجرائم وإدراك نوايا المجرمين ودوافعهم وقراءة حالتهم النفسية والمجتمعية تساعد في رسم شخصية روائية متكاملة بغض النظر عن وجود جريمة أو انعدامها في النص الروائي، فالقانوني هنا يتحول إلى خبير في تقديم شخوص مدروسة جيدا لها صور شبيهة بما يوجد في الواقع.
القانون والسرد والقراء

تؤثر دراسة القانون وتطبيقاته والعمل به على السرد باعتماد المنطق؛ فمنطق القانون يختلف عن منطق الرواية لكنْ كلاهما ينبعان من تعويد الذهن على التفكير المنطقي، وهو ما يساعد الروائي على إقناع القارئ بما يكتبه حتى لو كانت الكتابة من نوع الفانتازيا فهي تحتاج إلى منطق ليصدق القارئ الحكاية التي تحكيها له ويعيشها ويتخيلها مثلما فعل المؤلف.
في الوقت ذاته يعد التأثر بمصطلحات القانون في العمل الروائي أمرا بالغ الضرر، لأن تلك المصطلحات جافة، أما الفن فكاسر للقولبة ويسعى دوما للتجديد والتجريب، ما يلزم القاضي أو رجل القانون بأن يخلع رداءه عند ممارسة الإبداع.
هناك مبدعون ظهرت مواهبهم قبل دراسة القانون ولا يجدونه حاجزا أو دافعا لتقييد تلك المواهب، إنما يحاولون التأكيد على قانون إبداعي جازم بأن المبدع مبدع بغض النظر عن المهنة التي يزاولها.
ويوضح الروائي أدهم العبودي لـ“العرب” أنه احترف الأدب قبل امتهان المحاماة، لكنه استفاد من الأدب في مجال المحاماة، كما استفاد من المحاماة في مجال الأدب، فالمحاماة أثرت بشكل مباشر في تشكيل خصوصية الكتابة عنده على مستوى اللغة والطرح والموضوع ورسم الشخصيات وما إلى ذلك.
ويلفت إلى أنه كان يتعامل يوميا مع أنماط من البشر متباينة تصل إلى حد التضاد، وتحمل خلفها حكايات متشابكة وملهمة، فكل قضاياها حكايات، من هنا يكون معظم أبطال رواياته أبطال قضاياه التي باشرها قانونًا، فكان يقتبس الحياة من الخارج ليضعها داخل كتبه، فضلًا عن الروايات التي تحتاج إلى بحث قانوني أو تستند إلى وقائع تقاضٍ بعينها.
ويتابع “استفدت كثيرًا من عملي في المحاماة أثناء كتابة روايات، مثل ‘متاهة الأولياء’ و’باب العبد’، و’ما لم تروه ريحانة’، والأخيرة اطلعت على تفاصيلها من خلال عضويتي في اتحاد المحامين العرب”.
في تصور البعض من القراء أن الخلفية القانونية للروائي غير ذات بال ولا تكاد تترك أثرا لدى القارئ، فهم يرون أن أفضل الروايات المكتوبة عن الأطباء كتبها روائيون لا علاقة لهم بالطب، كما أن أفضل الروايات عن الجريمة كتبها أطباء ومبدعون لا تربطهم علاقة بالقانون.
تشير زينة محمود (طالبة بكلية الآداب – جامعة عين شمس في القاهرة) إلى افتتانها بالأدب البوليسي التقليدي لأجاثا كريستي وسومرست موم، وهما من الكتاب الذين لم يعملوا في سلك القضاء.
كذلك الحال بالنسبة إلى الروائيين الأشهر في الأدب البوليسي على المستوى العربي مثل نبيل فاروق الذي كان طبيبا، ومحمود سالم (مؤلف “ألغاز المغامرين الخمسة”) الذي كان صحافيا.
وتقول محمود لـ”العرب” إن الروائي اليوم مطالب بالبحث عن موضوع نصه لتصبح لديه القاعدة الأساسية التي تصلح لبناء عالم روائي مدهش.
ويشدد الناقد الأدبي مصطفى بيومي على أن الموهبة هي أساس رسم الشخصيات، ولا يجد فرقا بين أديب من خلفية قانونية وآخر من خلفية غير قانونية إلا في ما ندر؛ فالأديب نجيب محفوظ قدم شخصية القاضي ببشريتها في أكثر من عمل، وقدم شخصية الطبيب مثل الأطباء المحترفين، على الرغم من افتقاده لأي علاقة بكل من مهنتي القانون والطب.
ويذكر لـ“العرب” أن رسم بعض الروائيين الرواد للجرائم باحترافية ومنطق لا يعني بالضرورة احتكاكهم المباشر بمجرمين، إنما هو السعي والبحث للوصول إلى درجة متميزة من العناية بالعمل الأدبي نفسه، وتأثر الأدب بمهنة الكاتب وخلفيته يرخي بظلاله أحيانا على الجمال العفوي للنص.