ماكرون يسير على رمال متحركة بدفاعه عن الرسوم الكاريكاتيرية

ماكرون يدرك أن القوى السياسية التي أشادت برسومات النبي كانت من اليمين المتطرف، وهناك شيء خاطئ بالتأكيد عندما يجد رسامو الكاريكاتير الذين يدعون أنهم في أقصى اليسار أنفسهم أحبّاء اليمين المتطرف.
السبت 2020/11/07
تصريحات غير مدروسة العواقب

قصر الإليزيه ليس المكان الوحيد في فرنسا الذي ينظر إلى ردات الفعل على الهجمات الوحشية التي شنها متطرفون إسلاميون على الأراضي الفرنسية من دول مثل تركيا وإيران وباكستان على أنها منحرفة وجارحة. إذ يشارك جل الفرنسيين رئيسهم معبرين عن استيائهم، بما في ذلك العديد من المواطنين المسلمين.

وضاعف الغضب، مما يُنظر إليه على نطاق واسع على أنه تدخل أجنبي في الشؤون الفرنسية من دول مثل تركيا، صدمة فرنسا. إذ قطع رأس مدرس في الشارع. ويشعر العديد من الفرنسيين أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا يتحدّث عن اضطهاد أيغور المسلمين الوحشي في الصين، بينما يتدخّل في بلادهم.

يعدّ اتهام فرنسا بمعاداة الإسلام أمرا خاطئا. إن التزاوج بين المواطنين الفرنسيين المسلمين وغير المسلمين أمر شائع، وينضم أشخاص عديدين من أصول شمال أفريقية إلى الطبقة الوسطى حيث يشغلون منصب مدراء كبار، وحتى وزراء. ومع ذلك، يبدو مستوى البطالة بين فئة السكان غير المؤهلين هائلا، بنسبة تصل إلى 35 في المئة ممن تتراوح أعمارهم بين 16 و24 سنة، وهي نسبة تتضاعف بين أولئك الذين ينحدرون من آباء مهاجرين مسلمين.

يكذّب التمييز في التوظيف الكلمتين الأخيرتين من شعار “حرية، مساواة، أخوة” الموجود على واجهة كل بلدية في فرنسا. ويصبح الأشخاص المهمشون والذين يتعرضون للتمييز مجرمين صغارا. ويبقى الإرهاب الإسلامي أحدث مظهر لما أصبح مجتمعا موازيا. ويطلق على الضواحي الفقيرة في باريس اسم “أراضي الجمهورية المفقودة” لهذا السبب.

حتى الآن، كانت فرنسا موحدة في ردها على الإرهاب الإسلامي. وبدأت تلك الوحدة تتصدع مع تزايد عدد الفرنسيين المرهقين من “الحرب ضد الإسلام الراديكالي” التي فرضتها الحكومة، والتي تنطوي على خطر تفسيرها كحرب ضد الإسلام. وأقلق إعلان ماكرون الأخير بأن الخوف استوطن الجانب الآخر من الفرنسيين، بمن فيهم أولئك المنتمين إلى اليمين المعتدل. لكن هذا الشعور لا ينعكس في وسائل الإعلام التي “تصطاد مع الذئاب بلا خجل”.

في 2012، قبل ثلاث سنوات من الهجوم الإرهابي على صحيفة شارلي إيبدو الساخرة، التي كانت أول صحيفة في فرنسا تنشر رسوما كاريكاتيرية تصور النبي محمد، تساءل الرسام اليهودي، جورج فولينسكي، الذي لقي حتفه في هجوم سنة 2015، عما إذا كنا “أغبياء وجازفنا بمخاطرة لا داعي لها. فعلى مدى سنوات، وحتى لعقود من الزمن، كنا نمارس الاستفزاز وفي يوم من الأيام، سينقلب الاستفزاز علينا”.

لاحظ الصحافي، دلفيل ديتون، أن مثل هذه الرسوم الكاريكاتيرية لعبت دورا مباشرا في حجج صدام الحضارات “الغبية”، وأدت إلى وضع الهجمات في إطار الصراعات التي تخوضها القوات الفرنسية في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وتساءل: “لماذا تتورط جمهورية طالما فاخرت بعلمانيتها في صراعات يلوّح الطرفان فيها بالسيف من جهة، والقرآن من جهة أخرى؟”

تجدر الإشارة إلى أنه عندما أصبحت صحيفة “يولاندس بوستن” اليومية الدنماركية أول صحيفة أوروبية تنشر رسوما كاريكاتيرية تصور النبي محمد، بعد أقل من ثلاثة أشهر من الهجمات الإرهابية على مترو الأنفاق في لندن في 2005، أدان الرئيس الفرنسي جاك شيراك والرئيس الأميركي بيل كلينتون هذه الممارسة. واعتبرت استغلالا لحرية التعبير لتقليل احترام المشاعر الدينية.

كان الفيلسوف الفرنسي ووزير التعليم السابق المحافظ، لوك فيري، واضحا عندما قال إن “المرء غير ملزم بنشر كرتون شبه إباحي لتعليم حرية التعبير”. فكيف يمكن لوزارة التربية أن تعتبر مثل هذه الرسوم الكرتونية “تربوية”؟

ومع ذلك، تحمل الرسوم الكاريكاتيرية السياسية أصولا تاريخية في فرنسا لا تمتلكها الديمقراطيات الغربية الأخرى. وعلى مر السنين، لم تسلم الكنيسة الكاثوليكية من استهدافها بمثل تلك الرسوم. إذا كانت الرسوم الكاريكاتيرية للنبي صورا، فإنها ستعتبر إباحية. فإن تصوير محمد جاثيا على أربع، في وضعية السجود المتبعة أثناء الصلاة وقد تجرد من الملابس، سيشكل حتما صدمة للملايين من المسلمين من أتباعه، ولن يحتاجوا إلى تشجيع قادة شعبويين مثل أردوغان ليعبروا عن غضبهم.

وتعتبر مسألة ما إذا كان يجب التعامل مع هذه الرسوم الكاريكاتيرية باعتبارها الاختبار الحقيقي لحدود حرية التعبير قضيّة أخرى. إذ تعتمد فرنسا تعريفها الخاص للعلمانية الذي يختلف عن تعريف معظم الدول الغربية الأخرى. ولكن السؤال الذي يستحق الطرح يكمن في ما إذا كانت روح “العلمانية” التي دافع عنها الكثيرون في الطبقة السياسية تتماشى مع قانون 1905 الذي فصل الكنيسة عن الدولة.

ولا تصل إلينا أصوات المسلمين الفرنسيين الذين تعتبر سلسلة جرائم القتل الأخيرة بالنسبة لهم بغيضة، ويحتقرون الإهانات التي يلقيها الرئيس التركي على ماكرون، وفي الوقت نفسه يشعرون بالإهانة من رسوم شارلي إيبدو.

وتتعدد وجهات النظر المتطرفة في وسائل الإعلام التي تستبعد أي عرض لنقاشات أكثر عمقا وأكثر اختلافا. ولا نرى أثرا لمفكرين وأكاديميين فرنسيين بارزين مختصين في الإسلام وتاريخ الشرق الأوسط في أي مكان.

يدافع ماكرون عن حرية التعبير والحق في نقد الأديان. لكن قانون سنة 1881 الخاص بحرية الصحافة واضح في إدانته للتشويه أيضا. يصف الرئيس الإسلام بأنه “دين يمر بأزمة في كل مكان في العالم”، وهي حقيقة مزعجة لا يتمتع العديد من المسلمين بحرية مناقشتها لأنهم يعيشون في بلدان لا توجد فيها حرية التعبير، حيث يتعين عليهم الالتزام بقواعد المجتمعات التي لا تسمح بالتساؤل عن مكانة العقيدة.

وتطرح ملاحظته، مهما كانت نواياه حسنة، سؤالا، هل يتمتع القادة الغربيون بأخلاق عالية تسمح لهم بإصدار مثل هذه التصريحات؟ فعلى الرغم من مبرراتها السامية، انتهت التدخلات العسكرية للقوى الغربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وخاصة في أفغانستان والعراق وليبيا، بفشل ذريع. وفي الدولة الواقعة في شمال أفريقيا أين تدخلت فرنسا، لتتضاعف الفوضى أكثر. وساهمت الحملة في ليبيا في زعزعة استقرار منطقة الساحل، مما أدى إلى المزيد من التدخلات العسكرية الفرنسية. في مثل هذا السياق، تبدو تصريحات ماكرون خرقاء.

لنكن واضحين، الخوف من الإسلام لا “يميز” ​​المجتمع الفرنسي. تعامل فرنسا مواطنيها بشكل أفضل من دول مثل تركيا وإيران وباكستان. ولم يعد المؤرخون والسياسيون (وخاصة ماكرون في ما يتعلق بتاريخ فرنسا في الجزائر) يخجلون من مواجهة التاريخ الاستعماري. هل يمكن قول الشيء نفسه عن أردوغان الذي يرفض الاعتراف بإبادة الأرمن الجماعية ويضع عشرات الآلاف من مواطنيه وراء القضبان ويعامل مواطنيه الأكراد بوحشية علنية؟

ليس الإبحار في هذه المياه الخطرة بالأمر السهل. ويدرك ماكرون أن القوى السياسية التي أشادت برسومات النبي عندما نُشرت لأول مرة كانت من اليمين المتطرف بقيادة جان ماري لوبان، الذي خلفته ابنته مارين. وهناك شيء خاطئ بالتأكيد، عندما يجد رسامو الكاريكاتير الذين يدعون أنهم في أقصى اليسار أنفسهم أحبّاء اليمين المتطرف.

يتطلع الرئيس الفرنسي إلى الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكنه يخاطر بفقدان جوهره الإنساني بترديد بعض مما يروج له اليمين المتطرف. وبتقليله من أهمية الروابط المعقدة بين الهجمات الإرهابية الإسلامية على الأراضي الفرنسية وقضايا الاندماج الاجتماعي والأزمة التي لم تحل في الشرق الأوسط، لن يجلب لفرنسا سوى المزيد من الألم.

8