ماركيز عبقرية أدبية خالدة في وجدان أميركا اللاتينية

بوغوتا - قبل عشر سنوات من اليوم، توفي في المكسيك صاحب جائزة نوبل للأدب غابرييل غارسيا ماركيز، الذي لا يزال إرثه الأدبي الهائل يهيمن على ثقافة أميركا الجنوبية ويؤثر على الأجيال الجديدة من الكتاب. بالنسبة إلى عشاق أسلوبه السردي، يعد ماركيز بلا شك “بطريرك” الأدب المكتوب باللغة الإسبانية والأب الروحي للواقعية السحرية في الأدب العالمي.
توفي ماركيز في السابع عشر من أبريل 2014 عن عمر ناهز 87 عاما، وهو الذي بدأ الكتابة من بوابة الصحافة التي اعتبرها “أجمل مهنة في العالم”.
كان ماركيز مؤلفا غزير الإنتاج لعمل أدبي ضخم، يجمع العارفون والمبتدئون على حد سواء على أن روايته التي تحمل عنوان “مئة عام من العزلة” كانت تحفته الفنية التي جعلته هرما أدبيا في عام 1982، وهو العام الذي توج فيه بجائزة نوبل للأدب. في هذا العمل المترجم إلى حوالي خمسين لغة، أطلق ماركيز العنان لخياله وقدرته السردية التي سحرت قراءه في جميع اللغات.
ونظرا إلى كونه واحدا من أكثر الكولومبيين كونية، فقد ترك ماركيز بصمته على أدب أميركا اللاتينية لفترة طويلة بفضل إقامته الطويلة في المكسيك حتى وفاته، وقربه الوثيق من الروائي المكسيكي الكبير كارلوس فوينتيس وارتباطه بالزعماء الرئيسيين خلال الستينات والسبعينات والثمانينات في أميركا اللاتينية.
ولد “غابو”، كما كان يطلق عليه، في بلدة صغيرة شمال كولومبيا، وكان ينوي أن يصبح محاميا، ولكن بعد فترة قصيرة في كلية الحقوق في بوغوتا، سرعان ما وجد طريقه نحو الصحافة التي صاغ فيها أسلوبه ونثره. نشر “غابو” مقالته الأولى عام 1947 في صحيفة “إل إسبكتادور” وأصبح كاتب عمود في صحيفة “إل أونيفرسال دي قرطاجنة”.
كان ماركيز قارئا نهما لا يكل من التهام المئات من الأعمال الأدبية، الكلاسيكية وتلك الخاصة بالموجة الجديدة ولاسيما أعمال ألبير كامو وويليام فولكنر وفيرجينيا وولف.
نشر خلال الخمسينات والستينات روايات اشتهرت لاحقا مثل “الحب في زمن الكوليرا”، “قصة موت معلن”، “خريف البطريرك”..إلخ. وفي عام 1967، كان الفائز بجائزة نوبل للأدب في ذروة إبداعه مع الطبعة الأولى من رائعته “مئة عام من العزلة”، والتي بيعت منها أكثر من 50 مليون نسخة.
سيظل خياله اللامحدود وأسلوبه الثاقب فريدا من نوعه في الأدب المكتوب بلغة سيرفانتيس لفترة طويلة من الزمن.
وبعد مرور عشر سنوات على وفاته، لا يزال “غابو” يثير إعجاب قرائه واحترام أولئك الذين يأملون أن يسيروا على خطاه يوما ما.
استطاع ماركيز عبر مجموعة من الروايات التي جابت آفاق العالم أن يحرّر الكتابة من مألوفاتها التخييلية ومن إكراهات نظريات الفن، وأن يشحن جملته السردية بإيحاءات تتكئ على الواقع، وتغوص في تفاصيل معيشه لترتقي بحمولاته الاجتماعية والثقافية إلى مراقي القداسة، وتستنطق ما يكمن فيه محررة إياه بمسحة ساحرة من الخيال.
ولعلّ هذا ما منح كتابات ماركيز، على غرار روايته “مئة عام من العزلة” صفة الرّسولية، حيث اعتُبرت من أهمّ ما كتب في تاريخ اللغة الأسبانية، ومثّلت في الأدب العالمي استعارة متوهجة استشرت في المتخيَّل الكتابي شرقا وغربا وأثّرت في توجّهاته الفنية الكبرى. بل إن النظر في روايات ماركيز، ينبئ بكون هذا المبدع قد أعاد النضارة للكثير مما اهترأ من أشياء هذا الكون وبث المعنى في أغلب موجوداته، فألفاظ وعبارات مثل البحر والعزلة والقلق الإنساني والتوتر اليومي والذكريات ومفارقات الحياة، كادت تفارق في النصّ المركيزي دلالاتها المعجمية لتنال هوية معنوية جديدة تتفتّح فيها خزائن العجيب والغريب والمدهش أمام المتلقّي وتصيبه بخدر قرائي لذيذ هو من كتابات ماركيز علامتها المائزة.
فتح ماركيز للرواية العربية كوّة فنية منحتها القدرة على التحرر من اتباعيتها للرواية الغربية، وهي كوة تفتح الباب على الموروث الثقافي وكل ما يتصل بالذاكرة الجماعية للشعوب من جهة كونها تمثّل عاملا مهما من عوامل وحدتها الاجتماعية. ونبه إلى أن حدث التخييل لا يبلغ درجة السحر ولا يطول الكونية إلا متى نهض على دعامة كل ما هو مَحلي ليعانق به العالمي من متصورات الإنسان عن الكون.
يقرأ ماركيز الحياة بطريقة مغايرة، يقول في سيرته الروائية “عشت لأروي”، “الحياة ليست ما يعيشه أحدنا. إنما ما يتذكره، وكيف يتذكره”، بينما يتحدث عن أعماله الأدبية قائلا “يجب أن تعتبر جزءا هاما من أعمالي التخيلية، لأنها ليست سوى هذا: تخيلات حول حياتي”.
لقد حرر الكاتب الكولومبي الخيال والواقع على حد سواء في دمج بينهما يعلي من قيمة الوعي، بينما لا تخلو كتاباته من مسحة السخرية التي تلعب دور الرابط بين عالمي الخيال والواقع، ليعيد كتابة المعيش الإنساني والثورة والألم والآمال والأحلام البشرية بصيغ تجعلها أماثيل أيقونية، وهو ما نجح فيه بشكل جعله الكاتب الذي يحلم باقتفاء أثره الجميع.