ماذا لو كان أحمد الصالحين الهوني بيننا؟

الذكرى الخامسة عشر لرحيل الوالد (18 أبريل 2006) وإن شكلت لنا نحن أبناءه ومريديه وتلامذته ذكرى حزينة، إلا أنها أيضا فرصة لمراجعة النفس ومراجعة كل ما يجري من حولنا.
في مثل هذا اليوم من كل عام نطرح نفس السؤال: ماذا لو كان بيننا اليوم الإعلامي أحمد الصالحين الهوني؟
في حياته تعامل مع تحديات كبيرة واجهت ليبيا والدول العربية بحكمة منقطعة النظير. وهذا ليس غريبا عن رجل تحمل مسؤولية الإعلام في بلده، وكان الإعلام شاغله الأول والأخير.
الخدمات التي قدمها للإعلام والإعلاميين أكثر من أن تعد أو يتم عرضها في هذه الكلمة المقتضبة. ومؤسسة "العرب" اليوم واحدة من مآثره التي نمت وتطورت على أيدي تلامذته ومريديه.
صادف أن تزامن إطلاق صحيفة "العرب" مع بداية ظهور التيارات المتشددة والتكفيرية، ومع التحولات التي كانت قد بدأت تعصف بالمنطقة، كالثورة الإيرانية وحرب أفغانستان، والحرب العراقية – الإيرانية، كانت بوصلة الوالد واضحة، وكان موقف "العرب" معلنا من خلال تحولها إلى جامعة للأقلام العربية في لندن، التي كانت تعج آنذاك بالطلبة المبتعثين، وبالطاقات الإعلامية من مختلف الدول العربية، كالعراق، ومصر، وسوريا، والسودان، والجزائر، والمغرب، وفلسطين، ولبنان، ودول الخليج العربي.
كان الحلم كبيرا، وكان الوالد صاحب حلم ومشروع كبير. سرعان ما تحول الحلم إلى مشروع على الأرض، وإلى مصدر للخبر اليقين، ومنصة للأصوات الحرة والمتطلعة لمستقبل أفضل من خلال ما تحبّره من تحاليل وتعاليق ورؤى ونصوص أدبية وزوايا فكرية.
لطالما وقفت "العرب" مع القضايا العادلة ودافعت عن المبادئ والثوابت التي تبنتها من خلال خطها التحريري، ومن خلال الافتتاحيات التي كان الوالد يدونها بشكل يومي، في دفاع مستميت عن القضايا الحيوية للأمة. واستمر على ذلك الحال إلى أن توفاه الله في تونس التي أحبها وتعلق بها وكان عاشقا للسير في شوارعها والصلاة في مساجدها، ودفن في ليبيا التي كان من أبنائها الصادقين ورجالها المخلصين، ومن الأوفياء لها وهو على أرضها أو مقيما خارجها.
قد تكون شهادتنا مجروحة، ولكن نجاح "العرب" لا يحتاج إلى شهادة، نجاحها يتحدث عن نفسه؛ تحتضن "العرب" اليوم مواقع إلكترونية بعدة لغات، ومطبوعات متميزة ينتظرها قراؤها. رغم الأزمة المالية التي يمر بها العالم، وتمر بها صناعة الإعلام بالتحديد.
كلما اشتدت من حولها الصعوبات زادت عنادا، وزاد القائمون عليها إصرارا على النجاح. وهذه أهم شيمة ورثناها عن عميد مؤسسة "العرب".
ولا نبالغ إن قلنا إن "العرب" اليوم باتت تخشى على نفسها من قصة نجاحها.
لطالما واجه أحمد الصالحين المصاعب بروح قتالية، ولطالما كانت المصاعب كثيرة من حوله.
المصاعب اليوم كثيرة؛ تحديات التكنولوجيا الرقمية متمثلة في منصات التواصل الاجتماعي. وتحديات كورونا التي شغلت العالم. هذا بالطبع إلى جانب التحديات التي تواجهها الدول العربية اقتصاديا وسياسيا وأمنيا.
العالم يشهد مخاضا جديدا، لهذا السبب نسأل أنفسنا اليوم، ماذا لو كان أحمد الصالحين الهوني بيننا؟
ولكن، هل غادرنا أحمد الصالحين حقا؟ لا أعتقد. هو موجود بيننا بحكمته التي زرعها في نفوسنا، وبإيمانه بالمستقبل، الذي نؤمن به.
لم يكن الوالد رجل إعلام وسياسة فقط. كان مسلما بروح صوفية هادئة، ميالا إلى الحب والسكينة وسلام النفس، وكان أبا ودودا طيبا وربّ أسرة حنونا وحانيا، وكريما يمد يده للجميع بأصالة ابن البادية المجبول على النقاء والعطاء، وقد اتسعت أسرته إلى كل العالم العربي من خلال أبناء ليسوا من صلبه، ولكنه احتضنهم في "العرب" فوجدوا فيه نعم الأب والأخ الأكبر والصديق والرفيق والسند والمدد وقت اللزوم.
رحم الله الوالد أحمد الصالحين وطيب ثراه، وأسكنه منزلة الشهداء والصدّيقين وآل البيت الطاهرين ممّن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.