ماذا تفعل الأمم المتحدة في ليبيا

المشكلة في ليبيا اليوم أن هناك من يصر على ملاحقة رموز النظام السابق بينما الجرائم التي ارتكبت منذ العام 2011 تحتاج إلى أسفار ومجلدات وهي بحسب القانون الدولي لا تسقط بالتقادم.
الجمعة 2025/02/21
الحلم بليبيا مدنية وديمقراطية ما زال بعيد المنال

أول إحاطة أمام مجلس الأمن في العام 2025 لم تقدمها الرئيسة الجديدة للبعثة الأممية، حنا سيروا تيتيه، التي دشنت مهامها أمس الخميس، ولا رئيسة البعثة بالوكالة منذ استقالة المبعوث السابق عبدالله باتيلي في أبريل 2024، ستيفاني خوري، وإنما جاءت على لسان روزماري ديكارلو وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة التي تحدثت باسمه قبل تسلم تيتيه مهامها الرسمية، ووضعت نقطة استفهام حول الدور المستقبلي لخوري.

أشارت ديكارلو بوضوح تام إلى أن “الحلم بليبيا مدنية وديمقراطية تنعم بالرخاء ما يزال حلماً بعيد المنال، فالانقسامات المتأصلة وسوء إدارة اقتصاد البلاد واستمرار انتهاكات حقوق الإنسان والمصالح المحلية والخارجية المتنافسة، كلها عوامل مستمرة في تقويض وحدة ليبيا واستقرارها.” وأكدت أن هناك حاجة ملحة لإحراز تقدم في الملف الذي لا يزال عالقاً بين العراقيل والمطبات منذ 14 عاماً.

المؤكد أن الأمم المتحدة ما تزال تتعامل مع الوضع في ليبيا بالكثير من السذاجة وبساطة التفكير، والإحاطات التي تقدم منذ سنوات في مجلس الأمن لا تتجاوز أن تكون جرداً للأحداث بأسلوب التعبير الكتابي لتلاميذ المدارس التقليدية. يمكن القول إنها جزء من روتين المهام الأممية ومن مبررات صرف الرواتب والمكافآت المجزية. منذ العام 2011 تداول تسعة مبعوثين أمميين على الملف الليبي وستحتل المبعوثة الجديدة المرتبة العاشرة، بينما أديرت فترات مطولة على أيدي مسؤولين بالوكالة غير مدرجين في لائحة العشرة، آخرهم ستيفاني خوري.

قالت ديكارلو في إحاطتها إن البعثة أنشأت في 4 فبراير لجنة استشارية مكلفة بتقديم توصيات لمعالجة القضايا الخلافية في التشريعات الانتخابية التي حالت دون إجراء انتخابات وطنية. وهي ليست هيئة لاتخاذ القرارات، لكن مقترحاتها ستدعم الجهود الرامية إلى إزالة العقبات التي تحول دون إجراء انتخابات وطنية في ليبيا. وبالتوازي مع ذلك، تتخذ البعثة أيضاً خطوات لعقد حوار منظم بين الليبيين حول سبل معالجة الدوافع طويلة الأمد للنزاع ووضع رؤية شاملة من القاعدة إلى القمة لمستقبل بلادهم، وإقراراً بأهمية وجود اقتصاد قوي ومنصف ومرن لتحقيق الاستقرار في ليبيا.

◄ المؤكد أن الأمم المتحدة ما تزال تتعامل مع الوضع في ليبيا بالكثير من السذاجة وبساطة التفكير، والإحاطات التي تقدم منذ سنوات في مجلس الأمن لا تتجاوز أن تكون جرداً للأحداث بأسلوب التعبير الكتابي لتلاميذ المدارس التقليدية

إلى حد الآن، لا يعلم الليبيون ما ستكون عليه مخرجات اللجنة، ولكن أكثر الناس بُعداً عن الشأن السياسي بات يعلم أن زمن المعجزات قد انتهى، وأن لجنة العشرين أو الخمسين أو المئة لن تنجح في تغيير الواقع، وأن الألعاب التي تدور من تحت الطاولة قادرة على عرقلة جميع الخطط والمبادرات، وعلى العبث بالجهود الأممية والدولية، طالما أن النخبة الممسكة بمقاليد السلطة في طرابلس وبنغازي غير مستعدة للتنازل عن مصالحها وامتيازاتها. ليبيا اليوم يحكمها مجلس النواب المنتخب منذ أكثر من عشر سنوات، ومجلس الدولة المكون من أعضاء منتخبين منذ 13 عاماً. حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة ومعها المجلس الرئاسي جاءا ضمن مبادرة أممية قادتها ستيفاني ويليامز، تم انتخابهما في فبراير 2021 من أجل أن يهيئا الظروف لتنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية في ديسمبر من ذلك العام، وفي أقصى الحالات كانت مهمة تلك السلطات ستتواصل 18 شهراً. ولكن مرت أربع سنوات وهي متمسكة بالحكم والدبيبة يحلم بالبقاء عشر سنوات أخرى. الأمم المتحدة لم تكن وفية لالتزاماتها، وعوض أن تحل الأزمة بمبادرتها لتنظيم ملتقى الحوار السياسي زادت من تعقيد الوضع بالإشراف غير المباشر على عملية بيع وشراء للأصوات مما أدى إلى الدفع نحو كراسي الحكم بشخصيات غير مستعدة للتخلي عن مفاتيح الخزانة ولا عن صنابير النفط في بلد ثري ويحتل مساحة مهمة في قلب العالم.

أوضحت ديكارلو أن الانقسامات والتنافس على السيطرة على مؤسسات الدولة لا تزال تهيمن على المشهد السياسي والاقتصادي الليبي. فعلى الرغم من انخراط البعثة مع جميع أصحاب الشأن المعنيين، لم يتم إحراز أي تقدم بشأن ميزانية موحدة أو إطار إنفاق متفق عليه. في الآونة الأخيرة، تصاعد الخلاف حول تعيين قيادة ديوان المحاسبة الليبي، مما يهدد نزاهة هذه المؤسسة. بينما هناك أزمة أخرى: بعد ستة أشهر من التقاضي والأحكام القضائية المتضاربة، ما يزال النزاع حول منصب رئيس المجلس الأعلى للدولة دون حل. كما أن التسييس والانقسامات السياسية من القضايا التي تعيق إحراز تقدم في المصالحة الوطنية. في وقت سابق من هذا الشهر، ومن خلال عملية قادها الاتحاد الأفريقي، تم الاتفاق على ميثاق للمصالحة في الزنتان وتم اعتماده في 14 فبراير في أديس أبابا، وذلك على هامش قمة الاتحاد الأفريقي. وفي حين حظي هذا الميثاق بتأييد بعض الأطراف الليبية، إلا أن البعض الآخر لم يؤيده.

الواقع أن البعثة الأممية لها مفهوم للمصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية غير الذي يراه الأفارقة، وهي وفق إحاطة وكيلة الأمين العام تواصل الانخراط مع جميع الأطراف المعنية لحثها على السعي إلى عملية مصالحة وطنية قائمة على الحقوق وشاملة للجميع وبعيدة عن التدخلات السياسية، لكنها تساهم في عرقلة المشروع بشعارات لا تزال القوى الغربية تحاول إسقاطها على مجتمعات مختلفة عنها ثقافياً وحضارياً واجتماعياً. في العام 1951 قال الملك إدريس السنوسي: “حتحات على ما فات” ودعا بوضوح لا لبس فيه إلى نسيان ما مضى والانطلاق نحو المستقبل. الكثير من عملاء الاحتلال الإيطالي أصبحوا جزءاً من الدولة الوليدة. الكثير ممن أجرموا في حق الشعب الليبي تم تجاهلهم ولم تلاحقهم دولة الاستقلال. المشكلة في ليبيا اليوم أن هناك من يصر على ملاحقة رموز النظام السابق بينما الجرائم التي ارتكبت منذ العام 2011 تحتاج إلى أسفار ومجلدات، وهي بحسب القانون الدولي لا تسقط بالتقادم، ولكن عدداً مهماً من المسؤولين عنها والمتورطين فيها يمارسون اليوم الحكم، ويتولون مسؤوليات سياسية وأمنية وعسكرية، ويساهمون بكل قوة وعزيمة في نهب أموال الشعب الليبي وإهدار ثرواته. أولئك أنفسهم من يرفضون المصالحة ويعملون على قطع الطريق أمامها.

أكدت وكيلة الأمين العام، أن الاستقرار الهش في ليبيا في خطر متزايد، وقالت إن قادة البلاد والجهات الأمنية الفاعلة يخفقون في وضع المصلحة الوطنية فوق تنافسهم على المكاسب السياسية والشخصية. هذا الاستنتاج توصل إليه كل المبعوثين تقريباً، ولكن لا شيء يتغير. تعجز الأمم المتحدة عن حلحلة الأزمة في ليبيا كما في مناطق أخرى من العالم، والسبب أنها منظمة خاضعة للتوازنات الدولية، والتوازنات مرتبطة بالمصالح. والمصالح يمكن أن تكون للدول أو للشركات أو للأشخاص. في ليبيا الثرية هناك أطماع من كل جانب، والحل السياسي ليس أولوية لأي طرف داخلي أو خارجي. والوضع يمكن أن يستمر على ما هو عليه لسنوات أخرى بلا عدد. وهذا هو المرجح حالياً.

قد يكون السؤال الأكثر إثارة للجدل بين الليبيين هو ماذا تفعل الأمم المتحدة في بلادهم؟ وهل يصدق المنتظم الأممي أنه قادر على تغيير الأوضاع نحو الأحسن؟ إلى حد الآن يمكن القول إن المقابر الجماعية للمهاجرين غير الشرعيين وتعذيب السجناء وحالات الإخفاء القسري وسلاح الميليشيات والتدخلات الخارجية وتنامي الفساد ونهب المال العام وقمع الحريات العامة والخاصة والفشل في تحقيق المصالحة واستمرار خطاب الكراهية وغيرها من الظواهر السلبية تثبت أن البعثة الأممية أصبحت جداراً سميكاً يتكئ عليه المستفيدون من بقاء الوضع على ما هو عليه.

8