مئوية عراقية في درجة الصفر

مئوية احتفال رسمي بكلمات إنشائية بائسة للحكومة وعروض موسيقية وشعرية تستعير من زمن جلجامش والتاريخ السحيق بتكرار ممل ودون حياء أو كمن يستلف من بنك مغلق.
الثلاثاء 2021/12/14
المفارقة المؤلمة

مئة سنة ميلادية مضت على تأسيس الدولة العراقية الحديثة 1921 – 2021، مئوية برصيد صفري لدولة تقف على حافات الانهيار، وحزمة تهديدات وجودية أقلها خطورة شبح الفساد الذي صار يشغل الآليات الغاطسة للدولة – اللادولة، والإفلاس الذي يتراكم بعجز مالي سنوي وأزمات متداخلة ومركبة ليس بمقدور السلطات تفكيكها ومعالجتها.

مئوية.. وليس بمقدور العراق أن يحتفل بإنجازاته خلال مئة عام، ذلك لعدم وجود إنجاز يعطي لنا تميزا بين الدول والمجتمعات وهي تتسابق بالعلم والمبتكرات والصناعة والتقنيات والزراعة والاستثمار ومعدلات النمو والتنمية المستدامة وتطوير ثرواتها الوطنية.

مئوية احتفال رسمي بكلمات إنشائية بائسة للحكومة وعروض موسيقية وشعرية تستعير من زمن جلجامش والتاريخ السحيق بتكرار مملّ ودون حياء أو كمن يستلف من بنك مغلق، دون توفر قدرة حتى على قراءة المستقبل ورؤية ما يترتب على العراقيين من أدوار لمغادرة واقع الحال، والتوجه نحو الزمن المقبل وما يحمل من الأحداث أو مقومات النهوض والخروج من خانق الأزمات.

مئوية تحل على البلاد دون قدرة أو شجاعة على مراجعة أخطاء وانهيارات النصف الثاني من هذا القرن الدموي للعراقيين جميعا، مئوية وسط احتلالات متنوعة وميليشيات متمردة ودواعش بعناوين متعددة وتخلف اجتماعي غير مسبوق، وتراجع ثقافي خطير و.. ومخاوف شعبية من تصادم مسلح واقتتال بين فصائل وأحزاب تروم التمسك بالسلطة وإلى الأبد.

دراما تتصف باللامعقول حين يمضي العراق في النصف الأول من القرن نحو التقدم بالصناعة والزراعة والتجارة والتقنيات الحديثة والثقافة والفنون والآداب والقانون والقضاء، ثم يبدأ بهبوط متسارع في النصف الثاني من القرن حتى يبلغ مرحلة تقارب الصفر المئوي على إيقاع الاحتفال المئوي، نصف قرن من الدكتاتورية والحروب والتهجير والطائفية والأفكار الظلامية والنزاعات المسلحة لتجار الحروب والطائفية كانت كافية لإنجاز خراب شامل للعراق، وهذا ما حدث على نحو شاذ واستثنائي في التاريخ.

يكتسب الزمن – الوقت أهمية قصوى عند المجتمعات الحية، إذ ترتبط جميع الإنجازات ومشاريع البناء والتقدم والاستراتيجيات بالزمن، الأمر الذي يجعلها تطل على المستقبل وهي تعلم ماذا تريد، بخلاف مجهولية المستقبل للعراقيين وهم يدلفون للمئة الثانية من تاريخ دولتهم وكأنهم ضيوف على الآدمية كما يقول محمود درويش.

المفارقة المؤلمة أن يبدأ القرن الأول للدولة العراقية الحديثة برعاية نخب عديدة بالفكر والفلسفة والإدارة والطب والتجارة والاقتصاد والصناعة والبناء والعمارة والتخطيط وبسياقات نمو متصاعدة حتى تبلغ ذروتها في خمسينات القرن الماضي وستيناته، ولعل أهم ميزات تلك النهضة هو الطابع المديني والانفتاح على ثقافات جديدة وأخرى متنوعة المشارب والاتجاهات، لكننا اليوم نفتقد لذلك الفيض من الكفاءات والقدرات التي ارتبطت بمواطني الدولة والسعي لإنجاز بنائها بحداثة التكوين والتميز الإقليمي والعالمي.

إن ما تحقق عراقيا من تقدم في النصف الأول من عمر الدولة، أي من عشرينات القرن الماضي إلى سبعيناته، فقده العراق في الخمسين سنة اللاحقة عندما بدأت سلطات الدولة تختزل في يد الدكتاتور ونظامه الشمولي ونزعته الدموية في إعدام معارضيه وغلق نوافذ التنوع والتعدد والروح المدينية، بل قدم الولاء الشخصي والحزبي وتكريس ثقافة العشيرة وكل ما تستدعيه الحروب من بيئة وأجواء اجتماعية تشجع مظاهر النفاق والكذب والازدواجية السياسية التي أصابت المواطنة بالاختفاء القسري، حتى انتهينا إلى مجتمع تغلب عليه سلوكيات العنف ومهيأ لاستقبال الطائفية وثقافة الكراهية التي جاءت بها أحزاب الإسلام السياسي، وأحالته إلى مجتمع مريض منفصل عن ماضيه، أي مصاب بشيزوفرينيا يصعب شفاؤها في وقت قريب، فخراب الإنسان يمثل الخسارة الكبرى في المجتمعات المتشظية عرقيا وطائفيا.

9