مؤتمر دولي في عمان يناقش الرواية الشفهية أقدم مصادر المعرفة البشرية

المؤتمر الدولي للتأريخ الشفوي يستعيد جزءا مهمشا من معارف العرب.
الثلاثاء 2024/09/24
مبادرة تشاركية تؤسس لمقاربة عربية في التأريخ الشفوي

يبقى التأريخ الشفوي شأنه شأن الثقافة الشفهية مصدرا هاما للغاية لسد الفجوات المعرفية وتقديم قراءات مغايرة أحيانا لما هو مدون، تدفع إلى قراءة الأحداث من زوايا مختلفة، ورغم أهمية هذه المعطيات والوثائق الشفوية في التأريخ بكل أنواعه إلا أنها لا تلقى الاهتمام الكافي، وهو ما دفع إلى تسليط الضوء حول العديد من قضاياها في مؤتمر دولي للتأريخ الشفوي بسلطنة عمان.

عمر الخروصي

مسقط - بدأت الاثنين أعمال المؤتمر الدولي للتأريخ الشفوي “المفهوم والتجربة عربيا”، الذي تنظمه هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية العمانية بالتعاون مع مؤسسة وثيقة وطن بالجمهورية العربية السورية، بمشاركة نخبة من الباحثين والدارسين في مجال التوثيق من داخل سلطنة عمان وخارجها ويستمر ثلاثة أيام.

أهمية التأريخ الشفوي

قال رئيس هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية الدكتور حمد بن محمد الضوياني، في كلمته إن “الهيئة دأبت على التعريف بالجوانب الحضارية والتاريخية والثقافية والفكرية لسلطنة عمان وتاريخها التليد الذي أنجزه العماني على مر العصور، وأضحى سجلا حافلا قائما على تجربة إنسانية عمانية امتدت إلى الأجيال الحاضرة التي يتوجب استمرارها من خلال بناء أجيال متعاقبة من أبناء عمان، يتسلحون بالعلم والمعرفة ومواكبة التقدم العلمي والحضاري”.

وأضاف أن “إدراك هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية لأهمية الوثائق بكافة أنواعها تؤول في حفظ ذاكرة الوطن والدفاع عن حقوقه وإبراز إنتاج وإبداع المواطنين في ضمان استمرارية مؤسسات المجتمع، وتمكين أفراده من الوقوف والتعرف على كيانات ومقدرات الوطن من خلال ما تقدمه الوثائق من معلومات ومعارف متعددة حول الأنماط المعيشية والأوضاع الاجتماعية والإنجازات الاقتصادية والسياسية وغيرها”.

العديد من أوراق العمل والعروض المرئية والجلسات النقاشية المتخصصة تناقش في المؤتمر التحديات والآفاق المستقبلية للتأريخ الشفوي

وأكد أن الوثيقة الشفوية يعتمد عليها التأريخ الشفوي في كتابة التاريخ، وهي مصدر من مصادر الذاكرة التي تحظى بمنزلة خاصة من بين مصادر المؤرخ، وزادت خصوصيتها في الوقت الراهن لإسهامها في تفسير التاريخ المباشر بوصفه تاريخا عاشه المؤرخ ويجب أن يخضع لتقنين صارم في النقد التاريخي وإجراء الحوارات وتسجيلها وتدوينها وكتابتها في إطار استعمالها من قبل المؤرخين والباحثين.

وأشار الضوياني إلى أن الوثائق المكتوبة، ومع مرور الزمن، شكلت مصدرا مهما وأصبح الاعتماد عليها أساسا في كتابة التاريخ، وأضحت تشكل جدلا قائما بين المؤرخين حول قيمة التأريخ الشفوي ومدى استيعابه لمنجزات البحث العلمي الدقيق وتراكماته، وبنظرة خاصة نجد أن المؤرخين في القرون الماضية اعتمدوا بشكل واسع على المادة الشفوية بل إن جزءا من التراث العربي المدون في ميادين عديدة كان تراثا شفويا قوامه التداول والرواية الشفوية واعتد به مؤرخون كبار في البلاد الإسلامية.

من جانبها، قالت الدكتورة بثينة شعبان، المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية العربية السورية، ومؤسس ورئيس مجلس أمناء مؤسسة وثيقة وطن، في كلمتها “إن التأريخ الشفوي يحظى باهتمام في عدد غير قليل من البلدان العربية، منها فلسطين وليبيا وبعض دول المغرب العربي وسلطنة عمان التي أسست دائرة التوثيق الشفوي ضمن هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية منذ العام 2007، إلا أننا في المنطقة العربية لم نستكشف بعد كامل أدوار وإمكان الوثيقة الشفوية، ولم نختبر بعد العمل المؤسساتي التخصصي في ميادين العلوم التاريخية والإنسانية بكل ما يستدعيه هذا الميدان من بحث في الخصوصيات المجتمعية، وما يترتب عليها من تكيفات منهجية ومعرفية”.

وأضافت أن “منذ تأسيس وثيقة وطن، أدركنا في سوريا جملة المسؤوليات المجتمعية، والمعرفية والثقافية التي يفرضها ميدان العمل في التأريخ الشفوي”، مشيرة إلى أن “التأريخ الشفوي، الذي يناقش السرديات التاريخية السائدة ويؤسس لسرديات مغايرة حينا ومنافسة في بعض الأحيان، يحظى بمكان محوري في شبكة علاقات القوة الكامنة في إنتاج وإعادة إنتاج المعرفة وسد الثغرات المعرفية بخصوص الماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل”.

وذكرت أن في العام 2021، كان اللقاء بين هيئة الوثائق والمحفوظات في سلطنة عمان ومؤسسة وثيقة وطن في الجمهورية العربية السورية، وأسفر عن توقيع مذكرة تفاهم بين الطرفين في دمشق عام 2023، للتعاون وتبادل الخبرات والمعارف في صورة عمل عربي مشترك ومستمر في التأريخ الشفوي.

وأوضحت شعبان أن المؤتمر الحالي يعكس تلاقي الطموحات في صياغة مبادرة عربية تشاركية تسهم في التأسيس لمقاربة عربية في التأريخ الشفوي تستجيب للاحتياجات المحلية وتحدياتها وتغتني بالانفتاح على التجارب العالمية والتفاعل معها تأثرا وتأثيرا.

ويناقش المؤتمر الذي يقام بفندق جراند ميلينيوم – الخوير العديد من الموضوعات والقضايا المتعلقة بالتأريخ الشفوي عبر ثلاثة محاور رئيسة، وهي: المحور النظري، ويناقش مفهوم التأريخ الشفوي عربيا، والمحور العلمي، ويتناول التجارب العربية الإقليمية والعالمية (المنهج والمنتج)، والمحور المستقبلي، ويتطرق إلى آفاق التجربة العربية في التأريخ الشفوي.

ويهدف المؤتمر إلى دراسة إشكالية وتحديات التأريخ الشفوي ضمن خصوصية المجتمعات العربية، وتعميق الوعي بأهمية الوثيقة الشفوية في الكتابة التاريخية العربية المعاصرة، والاطلاع على تجارب التأريخ الشفوي في العالم العربي، وبحث سبل التعاون وتفعيل العمل المشترك في المشاريع والدراسات المتخصصة، إضافة إلى إمكانيات استثمار منهجية التأريخ الشفوي ضمن المناهج الدراسية، وبحث سبل تطوير التجربة العربية في التأريخ الشفوي.

ويتضمن المؤتمر العديد من أوراق العمل والعروض المرئية والجلسات النقاشية المتخصصة التي تناقش التحديات والآفاق المستقبلية للتأريخ الشفوي، بمشاركة أكثر من 25 متحدثا من داخل سلطنة عمان وخارجها.

أوراق بحثية

المؤتمر يهدف إلى دراسة تحديات التأريخ الشفوي ضمن خصوصية المجتمعات العربية وتعميق الوعي بأهمية الوثيقة الشفوية
المؤتمر يهدف إلى دراسة تحديات التأريخ الشفوي ضمن خصوصية المجتمعات العربية وتعميق الوعي بأهمية الوثيقة الشفوية

شهد اليوم الأول من أعمال المؤتمر جلسة واحدة أدارها الدكتور طالب بن سيف الخضوري ونوقش خلالها المحور النظري الذي جاء بعنوان “مفهوم التأريخ الشفوي عربيا” من خلال خمس أوراق عمل، قدم الورقة الأولى الدكتور مأمون وجيه أستاذ بكلية دار العلوم، بجامعة الفيوم في جمهورية مصر العربية عنوانها “التاريخ اللغوي بين الرواية الشفهية والتدوين”.

وقال وجيه إن الرواية الشفهية تمثل المصدر الأقدم لنقل المعرفة اللغوية، حيث كانت المجتمعات تعتمد على الحكي والقصص والأنشطة الشفهية، للحفاظ على تراثها اللغوي والثقافي، ومع تطور الكتابة والتدوين، أصبحت اللغة مكتوبة بشكل رسمي في السجلات والكتب، مما أتاح حفظها ونقلها بشكل أكثر دقة واستمرارية، وتبرز أهمية دراسة التاريخ اللغوي من خلال الرواية الشفهية والتدوين.

وتطرق خلال ورقته إلى شفهية الفكر والثقافة وعصور التدوين وجمع الروايات الشفهية وتوثيقها وجهود العلماء العرب في توثيق الرواية الشفهية للتراث اللغوي، كما تناول تجربة المعاجم العربية في تدوين التراث الشفهي وتدوين التراث الشفهي في العصر الحديث.

وتطرق الدكتور سامي مبيض، وهو كاتب ومؤرخ ورئيس مجلس أمناء مؤسسة تاريخ دمشق بالجمهورية العربية السورية، في ورقة العمل الثانية إلى “محاولات تدوين التاريخ الشفهي في سوريا” من خلال تجربتين منفصلتين: الأولى كانت للفنان مصطفى هلال سنة 1948، الذي جال على كبار السن من فناني القرن التاسع عشر، ودون ذكرياتهم الشعبية الموسيقية، أما التجربة الثانية فكانت للمؤرخ السوري يوسف أبيش، عندما حاول إضفاء شيء من المنهجية على التأريخ الشفهي أثناء عمله في الجامعة الأميركية في بيروت في منتصف ستينات القرن العشرين وسجل ذكريات نزار قباني ورئيس الوزراء الأسبق حسني البرازي.

وجاءت الورقة الثالثة بعنوان “خصوصية الثقافة الشفوية في التاريخ العربي في ظل مفهوم التاريخ الشفوي المعاصر– دراسة تاريخية تحليلية” للدكتور حسين المناصيري دكتور طرائق تدريس التأريخ بكلية التربية بجامعة القادسية في جمهورية العراق، الذي أكد أن لكل أمة من الأمم خصوصياتها الثقافية في شتى مجالاتها المختلفة، وإذا ما تقصينا الثقافة عموما والثقافة الشفوية في التاريخ العربي وهي مجال الدراسة الحالية على وجه الخصوص، فإن للعرب خصوصيتهم الثقافية في السرد لأحداث تنقل شفاهيا منذ حقب موغلة في الزمن وهو الأساس الذي قام عليه التأريخ العربي قبل الإسلام وبعده.

وحملت ورقة العمل الرابعة عنوان “التأريخ الشفوي في الهيستوريوغرافيا العربية: رهانات نقل المعرفة وتوطينها” قدمها الدكتور محمد سعيد الطاغوس، عضو الهيئة التدريسية في قسم الفلسفة بجامعة دمشق، وعضو مجلس أمناء مؤسسة وثيقة وطن، بالجمهورية العربية السورية.

وأشار الدكتور محمد الطاغوس إلى أنه بالرغم من الزيادة الملحوظة في الاهتمام الرائد بالتأريخ الشفوي في مختلف البلدان العربية، لم تحظ ممارسة التأريخ الشفوي بعد بالاعتراف الكامل في مجال التأريخ العربي، خاصة عند مقارنتها بتطور هذا المجال في بعض البلدان الأوروبية.

وذكر أن ورقته هدفت إلى بدء نقاش حول رهانات تجربة التأريخ الشفوي وعلاقتها بتحديات الكتابة التاريخية العربية، ودراسة خصوصية التأريخ الشفوي كحقل ينتمي إلى العلوم الإنسانية والتاريخية، ومكوناته وقضاياه الابستمولوجية.

واختتمت أوراق العمل المكرمة الدكتورة عائشة بنت حمد الدرمكية، عضو مجلس الدولة وأستاذ مساعد اللغة العربية وآدابها في الجامعة العربية المفتوحة بسلطنة عمان، بعنوان “الاستثمار في التراث الثقافي”.

وقالت الدرمكية إن الثقافة تمثل أحد أهم مرتكزات التنمية، وهي أصل من أصول الأمم ومكانتها وحضارتها الإنسانية، والعمل على استدامتها قائم على اعتبارها قدرة إبداعية، ومحركا أساسيا من محركات التنمية في القطاعات التنموية كلها. وأضافت أن الاستثمار في الثقافة عموما، وفي التراث الثقافي بشكل خاص، يشكل أساسا للتنمية الثقافية الحديثة، باعتبارها محركا يقوم على التأثير والخلق الإبداعي.

12