مآل المسار الانتخابي في ليبيا لم يفاجئ‎‎ أحدا

لم يكن من باب التحامل على البلدان الأوروبية القول بأنها كانت تسعى لتغليب مصالحها الوطنية قبل كل شيء وفي كثير من الحالات كانت الأجندات غير المعلنة والمنافسة الشرسة سيدة الموقف.
الخميس 2021/12/30
طريق محفوفة بالمخاطر

في خضم الفوضى السائدة في ليبيا، لم يعلق أحد آمالاً كبيرة على إمكانية تنظيم الانتخابات الرئاسية في موعدها المحدد ليوم الرابع والعشرين من ديسمبر الجاري، إلى حد أن أحد الخبراء الأوروبيين وصف المسار الآيل للانهيار بأنه مثل من “يشاهد تسجيلاً لحادث قطار بالصور البطيئة”.

على الرغم من عدم اعتراف أي جهة فاعلة محلية أو أجنبية بمسؤوليتها عن هذا الإخفاق، إلا أن المسؤولية كانت مشتركة إلى حد كبير.

جعلت الدول الغربية، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، الانتخابات وعلى الدوام في مقدمة أولوياتها إن لم تكن على رأسها. على الرغم من أن وضع معايير انتخابية هو نمط معتاد في الجهود المبذولة لحل الأزمات الدولية، إلا أن الإصرار الأميركي المدعوم من الأمم المتحدة على إجراء الانتخابات الليبية في موعدها، بالرغم من العراقيل البادية في الأفق، كان مثيراً للاهتمام. ولم يكن مفاجئاً أن ينتهي الأمر في نهاية المطاف إلى خروج القطار عن السكة.

لكن المجتمع الدولي بأسره يتقاسم المسؤولية عن هذا الفشل الذريع. فهو لم يظهر تبصراً أو عزيمة صلبة في سعيه للتقدم بالمسار. وفشل في إخراج المقاتلين الأجانب وكبح جماح الميليشيات الليبية قبل الانتخابات، على الرغم من أن قمة برلين في يناير 2020 دعت بكل وضوح إلى “حل الجماعات المسلحة والميليشيات في ليبيا ونزع سلاحها”.

وكان هناك اتفاق في ذلك المؤتمر على بدء “نهج متعدد المسارات” لتوحيد المؤسسات العسكرية والمدنية، بينما دعا قرار مجلس الأمن رقم 2571 المؤرخ في السادس عشر من أبريل 2021 إلى “انسحاب جميع القوات الأجنبية والمرتزقة دون تأخير”. وقد غادر بالفعل عدد قليل من المقاتلين الأجانب ولكن الجزء الأكبر بقي على الأراضي الليبية، مما أثار شكوكاً كبيرة حول مصداقية القوى العالمية العظمى. كما بذلت بعض الدول، مثل تركيا وروسيا، جهداً كبيراً من أجل عرقلة خروج المرتزقة، مع الحرص على إبقاء مقاتليها في ليبيا.

في نهاية المطاف كان الإصرار على تنظيم الانتخابات مع وجود الآلاف من المرتزقة الأجانب وأفراد الميليشيات المحلية تجوب شوارع المدن الليبية، ومن بينها العاصمة طرابلس، بمثابة سوء تقدير فادح. وقد ساهم انتشار المسلحين المنتمين إلى العديد من الفصائل حول المباني الرسمية في طرابلس في أواخر ديسمبر في خلق جو من الفتنة والتوتر.

وعلى أرض الميدان لم تظهر الأمم المتحدة قدرة على قراءة الأحداث عندما فشلت في تجنب المطبات الخطيرة التي كان من المتوقع أن تعترض الطريق الانتخابي نتيجة قرارات خاطئة، ومنها قيام المبعوث الأممي يان كوبيتش، قبل أن يستقيل من مهامه في ظروف غامضة في أواخر نوفمبر، بإعطاء موافقته على قانون انتخابي متسرع اعتمده رئيس مجلس النواب عقيلة صالح دون مناقشة أو تصويت. وتحول الخلاف حول هذا القانون خلال فترة لاحقة إلى أحد العراقيل الأساسية أمام تقدم المسار الانتخابي في مرحلته الأخيرة.

من الواضح أن الجدول الزمني المجهض للانتخابات ليس نهاية آمال المصالحة السياسية في ليبيا. لكن المأزق أظهر أنه لا يمكن كتابة فصل جديد دون الأخذ بالاعتبار السياق التاريخي

من الأكيد أن تنظيم انتخابات في بلاد تفتقد إلى تقاليد ديمقراطية حقيقية ولا يزال الولاء الجهوي والقبلي فيها أقوى من الولاء للدولة لا يمكن أن يعد أمراً سهلاً. ولكن محاولة المضي قدماً في المسار الانتخابي حتى قبل الاتفاق على أسس قانونية ودستورية واضحة وغض الطرف عن وجود المرتزقة والميليشيات جعل الطريق محفوفة بالمخاطر.

وهذا الفشل سوف يثير العديد من التساؤلات حول الدوافع والاستراتيجيات التي تحرك الفاعلين الأجانب في ليبيا. فقد حاولت بعض القوى الغربية، ومن بينها بالخصوص فرنسا وإيطاليا وألمانيا، الاستئثار بالأدوار الرئيسية في المسار. وكانت تتصرف وكأنها تنتمي إلى نادٍ مغلق لأصحاب المصالح الأجنبية في ليبيا، ولم تتردد في تهميش الدول المجاورة لليبيا عوضاً عن إشراكها في العملية السلمية بوصفها بلداناً لها مصلحة مباشرة في استقرار ليبيا.

لم يكن من باب التحامل على البلدان الأوروبية القول بأنها كانت تسعى لتغليب مصالحها الوطنية قبل كل شيء. وفي الكثير من الحالات، كانت الأجندات غير المعلنة والمنافسة الشرسة بينها هي سيدة الموقف.

ولكن الفرقاء الليبيين أنفسهم لعبوا دوراً محورياً نحو وضع المسار الانتخابي في طريق مسدود. وزاد من ضبابية هذا المسار تناقض المواقف الصادرة عن كلٍ من مجلس النواب في شرقي البلاد ومجلس الدولة في طرابلس (رغم أنه كان من المفروض أن تكون وظيفة مجلس الدولة استشارية فحسب).

ومما زاد في تأجيج الأزمة الانتخابية ترشح عدد من الشخصيات السياسية التي تعد من أكثر الشخصيات إثارة للجدل وغياب أية وجوه بمقدورها المساهمة في رأب الصدع بين الغرب والشرق. وكان من شبه المؤكد أن فوز أي من المترشحين المثيرين للجدل سوف يُلاقي موجة من الرفض من قبل منافسيهم إن لم يتسبب في موجة جديدة من العنف.

ومما زاد الطين بلة المضايقات التي أقدمت عليها الميليشيات وطغيان التوجس من محاولات التأثير غير الشرعية والتهديدات باستعمال السلاح الصادرة عن بعض الأطراف.

وقد لاحقت الشائعات والتتبعات القضائية المترشحين ومن بينهم بالخصوص المشير خليفة حفتر ورئيس الحكومة عبدالحميد الدبيبة وسيف الإسلام القذافي. وقد واجه هؤلاء اعتراضات في المحاكم قبل أن يتم الترخيص لهم باستئناف المشاركة في السباق الانتخابي.

من الواضح أن الجدول الزمني المجهض للانتخابات ليس نهاية آمال المصالحة السياسية في ليبيا. لكن المأزق أظهر أنه لا يمكن كتابة فصل جديد دون الأخذ بالاعتبار السياق التاريخي. خلال السنوات السبع الماضية منذ انتخابات 2014، لم تخطُ ليبيا أية خطوات ملموسة نحو المصالحة الوطنية وإعادة توحيد الدولة، مما أبقى المشهد السياسي مجزأً ومستقطباً بشكل خطير. ولا تزال هناك فجوة واسعة تفصل بين الطرفين الرئيسيين المتقابلين في ليبيا.

لا بد على كل الأطراف الفاعلة، سواء كانت ليبية أو أجنبية، أن تنتبه إلى أن الانتخابات لا يجوز اعتبارها مجرد سباق من أجل الفوز الساحق على حساب المتنافسين الآخرين.

ولا بد أن تتضمن الرحلة القادمة للقاطرة الانتخابية ضمن وجهاتها الرئيسية بناء دولة ليبية جديدة على أساس إدماج وتوحيد المؤسسات وإنهاء فوضى الميليشيات وإرساء أسس دولة القانون.

وسوف يكون من الخطأ أن يسعى الفاعلون المحليون للحفاظ على الوضع الراهن رغم كارثيته أو أن يراهن الفاعلون الأجانب على تنظيم الاقتراع في تاريخه المحدد دون أي اعتبار آخر.

ليس من باب الخيال الحديث عن انتخابات ليبية حرة ونزيهة. ولكن عدم القدرة على التعايش مع الطرف المنافس لا يمكن أن يشكل أساساً للديمقراطية.

9