ليس بمنطق الغنيمة والمكاسب تقيّم الثورات

الخبز لم يكن يوما المطلب الوحيد للشعوب الثائرة على مر الأزمان، فالتاريخ حافل بالدروس والتجارب عن أشخاص استماتوا في الدفاع عن الكرامة والمساواة والتحرر من قبضة المستبد أو المستعمر أو السيد.
الثورات لا تقيم الدنيا وتقعدها من أجل مطالب حياتية بسيطة وإن كانت أساسية، ولم يكن يوما تأمين المأكل والملبس أهدافا وحدودا تقف عندها الثورات والانتفاضات.
هل كان مجرد إقرار الحكومات لتخفيضات في المواد الاستهلاكية الأساسية قادرا على إسكات أصوات المنتقدين والمحتجين في ثورات الربيع العربي التي اندلعت في مطلع العام 2011؟ طبعا لا ومن دون أي شك، فـ”ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان”.
احتجاجات التونسيين كما المصريين كما الليبيين كما السوريين كما غيرهم من المنتفضين والغاضبين في البلدان العربية، والتي كانت شبيهة بقطع متساقطة في لعبة الدومينو، أعطت أملا للحالمين منذ عقود بالتحرر من قيود الاستبداد وكتم التعبير الحر والتفكير بصوت عال دون خوف.
ما من شك أن الثورات تقوم على هدف يلخص كل المسارات والمطالب وهو تغيير النظام بكل ما يحمله هذا التعبير من شمولية، فلا يمكن لنظام ما أن يتواصل عندما يستوفي كل الخطابات والبرامج التي قام عليها وأصبح عاجزا عن أن يكون في مستوى أحلام المواطنين فتصبح تلك نقطة اللاعودة.
يشكك المشككون في جدوى ثورات الربيع العربي ويقولون إنها ضلت طريقها في متاهات التكالب على المصالح والمكاسب والمؤامرات. هؤلاء يحللون الثورات بنفس المنطق الذي يحللون به الحروب والغزوات ليعتبروا أن مدى نجاح كل منهم يقاس بكمّ الغنيمة التي تم جنيها. لكن ليس بمنطق الغنائم تقاس الثورات ولا بمنطق “ماذا استفدنا؟”، على هؤلاء أن ينظروا للأمر من زاوية معاكسة وليسألوا أنفسهم “ماذا قدمنا نحن لبلداننا وماذا كان دورنا في ثوراتها؟”.
لا يمكن لنظام ما أن يتواصل عندما يستوفي كل الخطابات والبرامج التي قام عليها وأصبح عاجزا عن أن يكون في مستوى أحلام المواطنين فتصبح تلك نقطة اللاعودة
أغلب من يقيّمون التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي عاشتها بلدانهم بمنطق الغنيمة قد لا يكونون من المشاركين فيها أصلا، ولا يمكن أن يكونوا من الذين واجهوا سوط الجلاد يوما. هؤلاء يرفضون صراحة وعلنا استعمال مصطلح “ثورة” لوصف ما عاشته بلدانهم ويعتبرها البعض منهم ربما “حالة مؤقتة في الزمن” أو “انتفاضة” فيما يراها البعض الآخر “مؤامرة” خاطتها قوى وبلدان أجنبية تتربص ببلدانهم تنفيذا لمشروع ما موظفة لذلك أتباعها وعملاءها في الداخل.
صحيح أن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية كانت من بين أسباب قيام التحركات الشعبية وفق تاريخ الثورات، لكنها كانت بأهداف ولغايات أعمق من ذلك بكثير فمثلا ثورة المستعمرات الأميركية ضد الإمبراطورية البريطانية في أواخر القرن الثامن عشر قامت بسبب الأفضلية التي كان يحظى بها الإنكليز في الصناعة والتجارة وغيرهما من المجالات الأخرى على حساب غيرهم من مواطني المستعمرات.
تلاحم البرجوازية مع العمال وغيرهم من الثائرين بين 1789 و1799 في واحدة من أكثر ثورات التاريخ شهرة وهي الثورة الفرنسية كان احتجاجا على فساد الملكية واستبدادها وأسلوبها في الحكم وإدارة شؤون البلاد. وأكثر من ذلك فإن تداعياتها على كل أوروبا في ذلك الوقت إلى جانب قلبها لأنظمة الحكم وتغيير طبيعتها بظهور الجمهورية على أنقاض الملكية تبين حدود مقولة “أقصر طريق إلى قلب الرجل هو معدته وإلى عقله أيضا”.
المساواة بين كل طبقات المجتمع، حرية التعبير والتظاهر والإعلام والمعتقد، الكرامة الإنسانية، نبذ فساد الطبقة السياسية، كلها مطالب أساسية في الثورات في أي مكان وفي أي زمان وهي مشتركات لكل الشعوب باختلاف أوضاعها وترتيباتها وأنظمتها. هذه الثورات تشتعل شرارتها الأولى دائما مغلفة بعنوان كبير قوامه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية لكن في حقيقة الأمر هذه الظروف المتردية لم تكن سوى نتاج لسلوكيات وممارسات فاسدة واستبدادية مما يجعل للمساواة والحرية والحقوق والكرامة شرعية قوية لا يمكن نكرانها أو تجاهل فوائدها عند التحدث عن الثورة ومآلاتها.
كل الثورات تليها ثورات مضادة وانتكاسات لكن ذلك وضع طبيعي لفترة تطغى فيها التحولات الاجتماعية والسياسية وينقلب فيها نظام حكم رأسا على عقب وهو نتيجة طبيعية أو فلنقل ضريبة التغيير الذي تنشده الشعوب الثائرة على وضع مهترئ.