ليديا تشاكريان رسامة البلاد التي نجا منها الإنسان

تنتهي الحرب وتبقى آثارها ماثلة في المشاهد البصرية، غير أن الأكثر إيلاما ما يبقى راسخا في أعماق النفس البشرية. ليديا تشاكريان من جيل الحرب الأهلية اللبنانية. غير أن ما يجب التوقف عنده أن ليديا تنتمي إلى عائلة نجت من مذبحة كان الأرمن مادتها.
تشتبك الذاكرة بالواقع. الماضي بالحاضر. ماضي عائلتها وحاضرها الشخصي. ما بينهما خيط أسود سيكون حاضرا من خلال خطوطها التي تحرص على ألا تخفيها بالمساحات اللونية. الخط بالنسبة إلى الفنانة لا يفصل بين مساحتين بل هو امتداد للجرح الإنساني. إنه وسيلة للاتصال بين صرختين. هناك وهنا. تفكر ذاكرتها مثلما تفكر عيناها في الحرب. تلك المعصية التي لا يملك الإنسان وسيلة للتخلص منها أو نسيانها.
تسمي الأسلوب الذي ترسم من خلاله التعبيرية الجديدة. تلك تسمية اعتباطية، غير أنها لا تخون المعنى. ترسم بأسلوب تعبيري حقا. إنها تقول أشياء كثيرة من خلال موضوعها وهو الإنسان. لا تريد أن يحشرها الرسم في جمالياته. إنها ترغب في أن تقول أشياء تتعلق بالوجود الإنساني. وهو بالنسبة إلى تجربتها وجود مهدد.
وصف لحظة الهلع
مذبحة الأرمن تقيم في ذاكرتها فيما يغص حاضرها بوقائع الحرب الأهلية اللبنانية. الحرب دائما هي الحدث الوحيد الذي ينتظرنا. هل كان وصف لحظة الهلع هو قدر الرسم؟ ترسم كائناتها في انتظار لحظة التحول. ولكنه تحول يُغرق الكائنات البشرية بقلقه. لقد هاجر أهلها من أرمينيا إلى لبنان وها هي تهرب من لبنان إلى الولايات المتحدة كما لو أنها لم تعثر على خلاصها المنتظر.
ولدت تشاكريان في بيروت عام 1959 من عائلة أرمنية مهاجرة. حصلت على شهادة الماجستير من جامعة ألبا "الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة" عام 1988. بعدها انتقلت إلى تدريس مادة التصميم الداخلي والهندسة المعمارية.
أقامت أول معارضها عام 1992 في باريس ومن يومها وهي تقيم معارضها الشخصية حتى بلغ عددها أكثر من خمسين معرضا توزعت بين لبنان والولايات المتحدة والصين. قامت بالتدريس في كلية التقنية الوطنية الأرمنية حتى عام 2002. حينها انتقلت إلى الولايات المتحدة. نشرت رسومها في عدد من المجلات اللبنانية والأرمنية باعتبارها ناشطة في المجال الإنساني من غير أن تكون بعيدة عن الشرط الوجودي.
تشاكريان توظف كل طاقة الرسم التعبيرية من أجل إحياء قدرة الإنسان على المقاومة في اتجاهات مختلفة وفي مقدمتها الألم والرعب
ظهرت سيرتها الذاتية في موسوعة النساء الأرمنيات البارزات التي حررتها زوري بالايان وتم إصدارها برعاية الرئيس الأرمني سيرج سركسيان. وبالرغم من أنها كانت حريصة على توثيق الصلة الثقافية بجذورها العائلية فإنها كانت شديدة الحرص على استلهام حقائق حياتها اللبنانية على خلفية حرب أهلية طحنت اللبنانيين بغض النظر عن أصولهم العرقية.
لقد عاشت تشاكريان تلك الحرب بكل فصولها علما بأن دافعها لم يكن الانحياز إلى فريق محارب دون الآخرين. فليس الطرف المسيحي على الأقل هو الحائط الذي أسندت ظهرها إليه.
هي ابنة الرسم الذي شعرت أن جوهره وهو الإنسان صار في خطر بسبب الحرب. وهو خطر وجودي. ذلك ما جعلها توظف كل طاقة الرسم التعبيرية من أجل إحياء قدرة الإنسان على المقاومة في اتجاهات مختلفة وفي مقدمتها الألم والرعب. عبرت الفنانة في رسومها عن رغبتها في حماية الإنسان والرسم معا. فرسمت الإنسان من الداخل لتختبر قدرة الرسم على أن يذهب عميقا متخليا عن الوصف الخارجي. لقد كانت رسومها في ذلك الجانب أشبه بصور مختبرية كان الغرض منها التعرف على مواقع الألم.
سائحة في مواقع تتغير باستمرار كونها ترتبط بالوضع البشري الذي يعد الإنسان صورته غير الثابتة. هي صاحبة ذلك المزاج الذي يمزج الخطأ بالصواب.
قوة الأسود والأبيض
بالأسود والأبيض رسمت في مرحلة ما موضوعها وهو الإنسان. ليس لأنها تراه هكذا، مجردا من الألوان المستلهمة من الطبيعة التي تحيط به وتتخلله وتخترقه وتعلمه الأحلام، بل لأنه من وجهة نظرها صار مادة للصراع الأبدي بين الشر والخير. الأسود والأبيض هنا رمزان للحالة التي انتهى إليها العالم والرسامة تضع الإنسان هنا في منزلة العالم مصغرا وهو رهين تجاربه المريرة.
تجربة تشاكريان تخترقها الحرب لكن بمستويات مختلفة. وهو ما يضفي على الرسامة هالة الكفاح المزدوج الذي ينتقل من وصف الألم إلى مقاومته
لا تريد تشاكريان أن تجعل من لوحتها مرآة للعالم المتشظي من حولنا. إنها تختصر العالم في صورته الصغرى، الإنسان. ذلك الكائن المعذب، حامل غربته مثل صليب ولا يملك من مصيره شيئا. هل انتهى الإنسان إلى تلك الصورة المشوهة بعد أن ارتضى لنفسه أن تكون ضحية لحاملي السلاح الأوغاد أم أنه فشل في الارتقاء بنفسه عن المستوى الذي يقف به بين قوتين قاهرتين لا تُسمى إحداهما خيرا إلا على سبيل المجاز؟
الرسم بالأسود والأبيض هو تقنية تقوم على تحدي قوة الرسم من الداخل وفي الوقت نفسه فإنها تستحضر طاقة الإنسان حين يكون عاريا، بعيدا عن أسلحته التزيينية. الرسم كما لو لم نره والإنسان كما لم نره. قوتان تتحركان من الداخل إلى الخارج بمعان غير متوقعة. معنى التخطيط الذي يحل محل اللوحة ومعنى الإنسان الفرد الذي يحل محل الإنسان الاجتماعي.
وقد يتم تفسير تلك التقنية على أساس كونها تعبر عن الأنا والأنت وهما يصارعان اليأس وهو يجتاحهما باعتباره القوة الوحيدة المؤهلة للوصول إلى أهدافها بعد أن استسلمت كل القوى الأخرى لعجزها. أنت وأنا الهاربان من جحيمهما العام إلى جحيم أشد قسوة لكي ينتهيا إلى أن يكونا عاملين في تقنية استسلام.
هزيمة الإنسان والرسم معا
عاشت سنوات الحرب بكل حواسها. غير أنها لم تلجأ إلى توثيق ذكرياتها. مرت الحرب وبقي الإنسان. هل بقي الإنسان حقا؟ ذلك هو السؤال الذي تناقشه ليديا في رسومها من غير جدوى. لم تعد جملة مثل "لقد نجونا" مقنعة. مَن نجا هو إنسان آخر صارت حين ترسمه تشعر أنها تقف أمام مشروع خراب كوني. ذلك يعني أن الحرب لم تمر.
ترسم الحرب بطريقة مقنعة. تطارد الحرب كائناتها بكوابيسها. بل إنها تنخرها. تنخر تلك الكائنات الضعيفة التي لم تعد تقوى على الوقوف لتُرسم. صارت موضوعا للرسم ولكن ليديا تسعى للنهوض بتلك الكائنات لا لكي ترسمها بل لكي تبعث فيها الحياة بقوة الرسم. ذلك ما يعبر عن ثقتها وإيمانها بالرسم.
تشاكريان لا تريد أن تجعل من لوحتها مرآة للعالم المتشظي من حولنا. إنها تختصر العالم في صورته الصغرى، الإنسان. ذلك الكائن المعذب
تلك فنانة تؤمن بالإنسان والرسم معا. وما لم ينهض الاثنان معا فإن سقوطهما واقع لا محالة. ستترك رسوم ليديا تشاكريان صورة عن الإنسان في لحظة هزيمته. كما أن الإنسان الذي تصوره تلك الرسوم سيكون دليلا على هزيمة الرسم. تلك هي الحقيقة التي لا يُظهرها الواقع ويخشى الاعتراف بها. ذلك لأنها تعبر عن هزيمته. كانت ليديا محقة حين سمت الأسلوب الذي ترسم من خلاله بـ"التعبيرية الجديدة".
تشاكريان رسامة معنى. هل هي كذلك حقا؟ لا يمكننا الجزم بذلك بيقين كامل. ذلك لأن الرسامة في بعض تجاربها كانت تحاول أن تخفف من ضغط المعنى لتبدو اللوحة مخلصة لكفاءة عناصرها. إنها ترسم من أجل أن يأخذ الإنسان حيزه التعبيري لا من خلال ألمه بل ليتماهى مع وجوده الكامل وإن كان ذلك الوجود متخيلا.
لا يكتمل النظر إلى تجربة هذه الفنانة إلا من خلال النظر إلى المشهد الذي صنعته كاملا. ذلك المشهد الذي يمثل الإنسان في أقصى مراحل عذابه وفي الوقت نفسه في أقصى مراحل مقاومته. ذلك ما يمثله الرسم بالأبيض والأسود مضافا إليه الرسم بالألوان. تجربة تخترقها الحرب لكن بمستويات مختلفة. وهو ما يضفي على الرسامة هالة الكفاح المزدوج الذي ينتقل من وصف الألم إلى مقاومته.
قد يكون المعنى الذي تلاحقه الرسامة تجريديا غير أن أدواتها وموادها تقربه من الواقع الذي لا يتخلى عن خياله.