"ليدم فرحي" والقراءة الناقصة

كل زيارة أقوم بها إلى بلد عربي هي فرصة جديدة لاقتناء الكتب. القراءة هي جائزة حياتي، ولو خيرت بينها وبين الكتابة لفضلتها. في زيارتي الأخيرة إلى أبوظبي، فوجئت أن من بين الكتب التي حصلت عليها من الصديق الدكتور علي بن تميم رواية للفرنسي جان جينو بعنوان "الفارس على السطح"، وهي من إصدارات مشروع كلمة للنشر التي يشرف عليها بن تميم.
الرواية مترجمة عن الفرنسية طبعا، وتدور أحداثها في القرن التاسع عشر حين انتشر وباء الكوليرا في مدن جنوب فرنسا.
فرحت وحزنت وأنا أتقدم في قراءة تلك الرواية الممتعة، كبيرة الحجم (أكثر من 500 صفحة من الحجم المتوسط). رواية كُتبت عن المرض غير أنها تُقرأ بمتعة. ذلك هو سر الفن العظيم. لهذا السبب فرحت أما لماذا حزنت فإن ذلك يعود إلى أن الرواية ذكرتني برواية أخرى للمؤلف نفسه كنت قد فقدتها. ولطالما فقدت كتبا من خلال نسيانها في الطائرات والقطارات والفنادق، ولكن للكتاب الذي يضم رواية "ليدم فرحي" حكاية مختلفة تستحق أن تُروى.
ففي الليلة التي غادرت فيها بيتي في بغداد نسيت أن أضع ذلك الكتاب في حقيبتي. تركته مفتوحا على منضدة في غرفة الاستقبال. في الحافلة التي أقلتني إلى عمان وكان العراقيون قد حُرموا من نعمة الطيران، تذكرت الكتاب وشعرت بالأسف لأنني لم أكمل قراءة تلك الرواية المدهشة. قلت لنفسي وأنا أحتال عليها "لا بأس سأستأنف قراءتها حين أعود إلى البيت بعد وقت قصير."
مضت سنوات أربع عليّ في الدوحة وبعدها غادرت إلى السويد ولم تغب عن بالي الرواية التي حُرمت من قراءتها كاملة. ذات يوم اتصلت بي امرأة كنت أسكنتها في بيتي وأخبرتني أنها وجدت كتابا مفتوحا على طاولة غرفة الاستقبال. صمتُ فتساءلت "هل أبقيه مفتوحا أم أغلقه؟” تلعثمت حينها. ثم بعد لحظة صمت متوترة قلت لها “أغلقيه”.
كان ذلك قرارا مصيريا يتعلق بمستقبل حياتي. وهو ما يعني أنني لن أعود لأكمل قراءة الكتاب. الرواية التي أحببتها ستظل ناقصة. كما لو أن جان جينو لم يكمل كتابتها. صرت ألوم نفسي بين حين وآخر لأنني لم أحاول أثناء زياراتي إلى مدن عربية عديدة البحث عن نسخة أخرى للكتاب. أعود بعدها لأقول “ولكنني لو حصلت على نسخة أخرى فإنني سأفقد متعة استئناف القراءة.”
سأقرأ الرواية من صفحتها الأولى كما لو أنني لم أقرأها من قبل”. تلك حكاية قد لا تعني أحدا ولكنها تعطي فكرة عن الحياة مع الكتب. وهي حكاية خيالية لا تعيشها إلا قلة من البشر تعتبر القراءة جزءا من قوتها اليومي ولأسباب تختلف بين شخص وآخر. كان أبوالطيب عميقا في حكمته حين قال "أعز مكان في الدنى سرجُ سابح/ وخير جليس في الزمان كتابُ".