ليبيا في حاجة إلى صيغة واقعية لإنهاء أزمتها

هناك إدراك في ليبيا بأن أي حل عسكري أصبح شبه مستحيل، لقد سئمت القوى الإقليمية والدولية من الحرب العقيمة بالوكالة والشعب الليبي منهك بسبب سنوات من المعاناة وعرقلة الوصول إلى حلول
السبت 2022/06/11
وضع سياسي غير مستقر

وجدت ليبيا نفسها مرة أخرى وسط أزمة سياسية تتواجه فيها حكومتان، إحداهما في طرابلس والأخرى في سرت، ويتنافس خلالها رئيسا وزراء على الشرعية وكذلك على الدعم الداخلي والخارجي.

بدأت آخر حلقات المواجهة في شهر فبراير عندما عيّن البرلمان الواقع في مدينة “طبرق” وزير الداخلية السابق فتحي باشاغا رئيسا جديدا للوزراء بدلا من رئيس الوزراء المؤقت عبدالحميد الدبيبة. وكان من المفترض أن ينهي هذا الأخير مهامه مع تنظيم الانتخابات الرئاسية في شهر ديسمبر 2021. ولكن الانتخابات أجهضت وأصر الدبيبة في الختام على عدم التنازل عن السلطة إلا لحكومة منتخبة.

تضاءل الاهتمام الدولي بالأزمة الليبية نتيجة الحرب في أوكرانيا لكن الأنظار توجهت مجددا إلى ليبيا لما حاول باشاغا شق طريقه إلى طرابلس الشهر الماضي ولكنه فشل في مسعاه.

وسلطت المحاولة الفاشلة الأضواء أيضا على دور الميليشيات إذ أن فصائل مسلحة مختلفة قامت بتهريب باشاغا إلى طرابلس ثم رافقته في النهاية إلى خارج المدينة.

وأثارت الاشتباكات التي اندلعت في الأثناء مخاوف من تجدّد الحرب الأهلية واحتمال أن تحدث ردود فعل على فشل المحاولة من حلفاء باشاغا، ولاسيما من رئيس مجلس النواب عقيلة صالح وقائد الجيش في المنطقة الشرقية خليفة حفتر.

وبسبب الخلافات حول التحويلات المالية، أغلقت بعض العناصر القبلية المرتبطة بحفتر أهم حقول النفط، مما أدى إلى خسارة تقدر بمليارات الدولارات من العائدات لليبيا في وقت ارتفعت فيه أسعار الطاقة في العالم.

وأدت الدوافع الأنانية التي كانت تحرك السياسيين إلى تعميق تشاؤم الليبيين وإحساسهم بالعجز أمام تطورات الوضع، وهو الشعور الذي ينبع من عقود من الحرمان من الحقوق في ظل حكم معمر القذافي ومن التدخلات التي لا حدود ولا قيود لها من قبل القوى الأجنبية منذ سنة 2011.

المهمة الأكثر إلحاحا هي التوصل إلى توافق حول نوع الانتخابات التي ينبغي إجراؤها. ويأمل الكثيرون في تنظيم الانتخابات التشريعية مما قد يسمح بإنشاء مؤسسات موحدة

وقد زاد الدور المنسوب للقوى الخارجية في توتير الأوضاع في البلاد، وهو دور فيه الكثير من الحقيقة والخيال، في شعور معظم الليبيين بالحيرة والارتباك، إذ ساهمت  الشائعات ونظريات المؤامرة في تعميق إحساس المواطنين العاديين بأن مصير بلادهم ليس بأيديهم، بل هو بأيدي أطراف خارجية.

ولسوء الحظ بالنسبة إلى ليبيا، فإن التدخل الخارجي ليس كله من نسج الخيال الشعبي، فالكثير منه حقيقة لا تترك مجالا  للشك.

وقد جلب الليبيون بعض تلك التدخلات الأجنبية لأنفسهم، إذ لطالما وجدت الفصائل المتنافسة في المنطقتين الشرقية والغربية مصلحتها في الحصول على الدعم من القوى الأجنبية.

وبالنظر إلى تاريخ التدخل الأجنبي في ليبيا، فلا يمكن إلا التسليم بأن حل النزاع سوف يتطلب إجماعا دوليا وترتيبا براغماتيا للأولويات. وتواصل الاختلاف في الرؤى بين القوى الدولية المؤثرة لن يؤدي إلا إلى تعطيل كل تقدم نحو ديناميكية جادة.

وقد تساعد في بلورة الإجماع الدولي على التسوية بوادر اهتمام الولايات المتحدة بتنشيط دورها في ليبيا، وحتى لو كانت التطورات الدولية غير المحسوبة قد تجعل ذلك الاهتمام مؤقتا أو محدود التركيز.

ومن العوامل الأخرى التي يمكن أن تساعد على حلحلة مسار التسوية اتجاه بلدان المنطقة نحو التهدئة والمصالحة.

من ذلك، التقارب بين تركيا وغرمائها السابقين بمن فيهم بعض دول الخليج العربي ومصر، بعد أن  لعبت تركيا بلا شك دورا رئيسيا في ليبيا على الصعيد السياسي والاقتصادي والعسكري.  فقد أصبحت أنقرة الآن أكثر انشغالا بالأوضاع في سوريا والعراق، كما أنها تشعر بكثير من القلق تجاه تأثير الحرب في أوكرانيا على مصالحها داخل الناتو والاتحاد الأوروبي وأيضا على علاقاتها بالولايات المتحدة.

في الأثناء، قد يكون من الضروري، أكثر من أي وقت مضى، إعادة ترتيب شكل العملية السياسية الليبية التي ترعاها الأمم المتحدة، وهي العملية التي فشلت في الاختبار المتعلق بإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها العام الماضي.

وتواصل الأمم المتحدة في الوقت الحالي الدفع نحو التسوية في ليبيا دون أن يكون لديها تصور عملي وواقعي لكيفية إنهاء الأزمة في ليبيا.

وقد عقدت المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز محادثات مشتركة في القاهرة الشهر الماضي. وهي اجتماعات حضرها مندوبون عن مجلس النواب ومجلس الدولة الليبيين، وركزت على مراجعة “المسودة الدستورية لعام 2017”.

ومن المقرر عقد اجتماع جديد في شهر يونيو الحالي على أمل أن يمكن ذلك من الاتفاق النهائي على المسودة الدستورية قبل إجراء الانتخابات.

وتكمن المشكلة حاليا في أن الاتفاق على مسودة الدستور وتقديمه لاحقا للاستفتاء هو هدف مفتوح في الزمن، وهو هدف من شأنه أن يشتت الانتباه بعيدا عن معالجة الخطر الأكثر إلحاحا وهو الخلاف بين الدبيبة وباشاغا واحتمال أن يؤدي ذلك إلى تفجير الوضع الأمني.

قد يكون من الضروري، أكثر من أي وقت مضى، إعادة ترتيب شكل العملية السياسية الليبية التي ترعاها الأمم المتحدة، وهي العملية التي فشلت في الاختبار المتعلق بإجراء الانتخابات الرئاسية

ومن الأكيد أن التوافق على الإطار الدستوري هو، على الأقل نظريا، شرط منطقي قبل إجراء انتخابات هادئة، لكنه أيضا شرط قد لا يكون بوسع ليبيا تلبيته في الوقت الراهن، بالنظر إلى الاحتياجات العاجلة الأخرى التي تواجهها البلاد. وبالتالي فإنه قد يكون هناك مبرر لترك الإطار الدستوري للبرلمان القادم كي ينظر فيه.

والمهمة الأكثر إلحاحا هي التوصل إلى توافق حول نوع الانتخابات التي ينبغي إجراؤها. ويأمل الكثيرون في تنظيم الانتخابات التشريعية مما قد يسمح بإنشاء مؤسسات موحدة، تشمل البرلمان والحكومة المؤقتة وإعادة تنشيط المحكمة الدستورية.

وإعطاء الأولوية للانتخابات الرئاسية في المقابل سيعني تأخير أي اقتراع لفترة طويلة اعتبارا لحساسية أي سباق نحو الرئاسة.

ولكن التوافق على أولوية الانتخابات التشريعية يحتاج إلى تبديد مخاوف بعض الأطراف في المنطقة الشرقية التي ترى أن منح الأولوية للانتخابات البرلمانية مناورة من الإسلاميين لإلغاء الانتخابات الرئاسية بشكل لا رجعة فيه.

ومن الواضح أن الانتخابات في ليبيا، أية انتخابات، من شأنها أن تؤدي إلى تفاقم التوترات، حيث حدث ذلك بعد اقتراع 2014 ومرة أخرى قبل التصويت الذي كان مقررا في ديسمبر 2021.

ولا يمكن للانتخابات أن تكتسب زخما كافيا في الوضع الحالي غير المستقر في ليبيا والقائم على فكرة إقصاء المغلوب من اللعبة السياسية. وقد تحتاج البلاد في نهاية المطاف إلى طائفة من الوجوه الجديدة بإمكانها أن ترمّم ثقة الجمهور في النخبة السياسية.

وفي الوقت الحالي، يجب أن ينصب التركيز على اغتنام الفرص السانحة بشكل عملي ورسم مسار ناجع وواقعي نحو إنهاء الأزمة.

وقد تكون الرياح مواتية اليوم في ليبيا أكثر من الماضي، فعلى الرغم من كل المخاوف من أن يؤدي صراع رئيسي الوزراء المتنافسين إلى إشعال نار الحرب الأهلية من جديد، إلا أن هناك إدراكا في ليبيا بأن أي حل عسكري أصبح شبه مستحيل. كما سئمت القوى الإقليمية والدولية المواجهات العسكرية بالوكالة، ويشعر الشعب الليبي بالإنهاك الشديد بعد سنوات من المعاناة والآمال المجهضة.

ويتساءل الكثيرون في ليبيا عن الأسباب التي جعلت السياسيين في بلادهم يعجزون كل هذا الوقت عن تحقيق أي تقدم يذكر. فعلى الرغم من الاختلافات الإقليمية والقبلية، إلا أن ليبيا بقيت دوما بمنأى عن الانقسامات الحزبية أو الطائفية. كما أن البلاد تزخر بالموارد التي سوف تسمح لها بالبدء من جديد، لو ابتعدت عن المشهد الأطراف المتسببة في إطالة عمر المأزق.

8