ليبيا تفتح صندوق الجنسية الأسود وآلاف الملفات تحت المجهر لكشف التزوير

طرابلس - أعلن مكتب النائب العام الليبي الصديق الصور عن نتائج مراجعة شاملة طالت 282 ألفًا و447 ملفًا، ضمن مسعى دقيق لتدقيق إجراءات الحصول على الجنسية الليبية، في خطوة حاسمة لمواجهة شبكات تزوير الجنسية المتغلغلة.
وتهدف هذه المراجعة المكثفة إلى كشف عمليات التلاعب التي تهدد الهوية الوطنية، ووقف التداعيات القانونية والاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن هذا العمل غير المشروع الذي استمر لعقود.
وأكد مكتب النائب العام، في بيان صدر الجمعة، استعراضه الدقيق لأعمال مراجعة بيانات الانتماء للأصل الليبي، وشروط اكتساب الجنسية، وسلامة الإجراءات المتبعة في منحها للأجانب.
وشدد على أن الهدف الأساسي هو وضع حد نهائي لتبعات "العبث ببيانات المواطنة" الذي استنزف حقوق الليبيين وهدد النسيج الاجتماعي.
وفي سياق متصل، حث النائب العام وكلاءه على "تحريك الدعوى الجنائية ورفعها في مواجهة العابثين ببيانات الأحوال المدنية، على اختلاف المادّيات المنسوبة إليهم"، مؤكدا على أهمية حماية حقوق الشعب على كافة الأصعدة، وإطلاع المجتمع على الحقائق كاملة، ودعم جهود إرساء الاستقرار والسلم المجتمعي.
وقد عقد النائب العام اجتماعا الثلاثاء مع المحققين المكلفين بقضايا تزوير بيانات الأحوال المدنية، وشدد على ضرورة التعمق في تقصي البيانات المخالفة للحقيقة، واتخاذ كافة التدابير اللازمة للحد من الآثار المترتبة على عمليات التزوير الواسعة.
كما تناول الاجتماع نتائج تمكين أعضاء النيابة العامة من الوصول إلى ملفات السجل المدني وتحليل بياناتها بدقة للتحقق من سلامة السجلات.
وكشفت نتائج التدقيق الأولية عن حجم التلاعب الكبير في بيانات الإقامة والانتقال والاكتتاب في 160 مكتبا من مكاتب مصلحة الأحوال المدنية.
وقد تم تصنيف الإحصائيات لتحديد الأخطاء الخارجة عن دائرة البحث الجنائي وتلك التي سهلت تسجيل معلومات كاذبة. والأكثر دلالة هو استعراض وأرشفة أكثر من 282 ألف ملف تضمنت وثائق إجراءات الحصول على الجنسية الليبية، مما يعكس حجم المهمة الشاقة التي يواجهها مكتب النائب العام.
وتأتي هذه التحركات القضائية في أعقاب سلسلة من الإدانات التي طالت مسؤولين متورطين في عمليات تزوير واسعة، ففي 17 مارس الماضي، قضت محكمة جنايات مصراتة بالسجن على أربعة ضباط في مصلحة الجوازات والجنسية وشؤون الأجانب بعد إدانتهم بتزوير وثائق رسمية وتقليد أختام بهدف التربح غير المشروع. كما صدرت أحكام بالسجن بحق مسؤول طباعة جوازات السفر وضابط آخر، مع حرمانهما من الحقوق المدنية وإلزامهما بالمصاريف.
وفي يناير الماضي، أعلنت السلطات عن توقيف مسؤولين سابقين في مصلحة الأحوال المدنية احتياطيًا بتهم تتعلق بتورطهم في تزوير 200 قيد عائلي لصالح أشخاص لا يحملون الجنسية الليبية، والتآمر مع آخرين لتعديل بيانات الإقامة والانتقال بشكل غير قانوني.
وقد مكنت هذه الوثائق المزورة أفرادًا من الحصول على أرقام وطنية والاستفادة من حقوق المواطنة بشكل غير مشروع، مع إجبار موظفات على تسجيل هذه البيانات المخالفة تحت سلطة المتهمين.
وتعود جذور مشكلة تزوير الجنسية في ليبيا إلى عهد الزعيم الراحل معمر القذافي، حيث مُنحت الجنسية لغير الليبيين بشكل عشوائي ومسيَّس، غالبا بدون وثائق تثبت انتماءهم للبلاد، وقد ارتبط ذلك بتوجهات القومية العربية وسياسة "ليبيا أرض لكل العرب" التي سمحت بمنح الجنسية لأي مواطن عربي يرغب في الإقامة في ليبيا بموجب قوانين الجنسية آنذاك.
ورغم إلغاء تلك القوانين واستبدالها بأخرى لاحقا، استمرت عمليات منح الجنسية بشكل غير قانوني حتى بعد ثورة 2011، فقد طالبت مكونات سكانية ذات امتدادات في دول الجوار، مثل سكان إقليم أوزو وقبائل التبو والطوارق، بمنحهم الجنسية الليبية، وشهدت مناطق الجنوب الليبي ارتفاعا غير مبرر في عدد السكان.
كما تضخم عدد الأسر المصرية الحاصلة على الجنسية الليبية عبر مكتب طبرق، حيث ارتفع من 500 أسرة في عام 1974 إلى 30 ألف أسرة، غالبًا بقرارات سياسية ودون أوراق ثبوتية، وقد أدت هذه الفوضى إلى اكتشاف آلاف بطاقات الهوية المزورة.
وتعكس هذه التحركات القضائية الأخيرة إصرارا من مكتب النائب العام على معالجة ملف فساد مستشرٍ له تداعيات خطيرة على الهوية الوطنية والتركيبة السكانية في ليبيا، حيث أن حجم الملفات التي تجري مراجعتها يشير إلى عمق المشكلة وتجذر شبكات التزوير داخل مؤسسات الدولة.
ومن المتوقع أن تسفر هذه الجهود عن إسقاط الجنسية عن آلاف الأشخاص الذين حصلوا عليها بطرق غير قانونية، مما قد يؤدي إلى استعادة بعض الحقوق والموارد التي تم الاستفادة منها بشكل غير مشروع.
وتتطلب هذه العملية إصلاحات جذرية في نظام السجل المدني لضمان دقة البيانات ومنع تكرار عمليات التزوير في المستقبل، وسط توقعات بأن تثير عمليات إسقاط الجنسية ردود فعل اجتماعية وسياسية معقدة، خاصة في المناطق التي شهدت تجنيسا واسع النطاق في فترات سابقة.
ويمثل تزوير الجنسية والهويات تهديدا مباشرا لنزاهة العملية الانتخابية في ليبيا. فالهويات المزورة تفتح الباب أمام تسجيل ناخبين وهميين أو مضاعفين، مما يشوه قوائم الناخبين ويؤدي إلى تضخيم غير شرعي للأصوات.
وفي سياق سياسي ليبي هش ومنقسم، يمكن أن يؤدي حتى عدد قليل من الأصوات المزورة إلى تغيير نتائج الانتخابات وتقويض إرادة الناخبين الحقيقيين، مما يزيد من حالة عدم الاستقرار ويقوض الثقة في أي عملية سياسية مستقبلية.
ويعتبر ضمان سجلات أحوال مدنية دقيقة ونزيهة هو حجر الزاوية لأي انتخابات ديمقراطية حقيقية، ومكافحة تزوير الجنسية تمثل خطوة حاسمة نحو حماية مستقبل ليبيا السياسي.
وتمثل حملة مكتب النائب العام لمراجعة ملفات الجنسية في ليبيا خطوة جريئة وضرورية لمواجهة إرث من التلاعب والفساد الذي استمر لعقود. ويعد كشف شبكات التزوير ومحاسبة المتورطين واستعادة الحقوق المسلوبة هي خطوات حاسمة نحو حماية الهوية الوطنية وتعزيز أسس الدولة الليبية، ومع ذلك، فإن الطريق لا يزال طويلا ويتطلب تضافر جهود جميع الأطراف لضمان تحقيق العدالة وإصلاح المؤسسات المعنية بشكل شامل.