ليبيا بين جرد المصالح ووهم المصالحة

في ظل الواقع المتشعب فإن من يحكمون في طرابلس ومن يحكمون في بنغازي غير مستعدين للمصالحة لاسيما مع تشكل دكتاتورية على الأرض تسيطر على مؤسسات الدولة وتبسط نفوذها على الثروة.
السبت 2024/10/05
المصالحة لا تزال بعيدة المنال

خلال أيام، سيقوم رئيس الاتحاد الأفريقي، الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني، بزيارة إلى ليبيا، يصحبه فيها رئيس جمهورية الكونغو برازافيل، دينيس ساسو نغيسو، رئيس اللجنة الأفريقية رفيعة المستوى المكلفة بالأزمة الليبية، ورئيس المفوضية الأفريقية موسى فقي محمد. تشمل الزيارة طرابلس وبنغازي، وتتمحور حول رغبة الأفارقة في العمل على حلحلة ملف المصالحة الذي كان سيتم اتخاذ قرارات حاسمة بشأنه خلال مؤتمر تقرر قبل أشهر تنظيمه في أديس أبابا في منتصف أكتوبر الجاري، لكن خلافات الفرقاء أدت إلى تأجيله لأجل غير مسمى، تمامًا كما حدث سابقًا مع المؤتمر الذي أقرت اللجنة التحضيرية التابعة للمجلس الرئاسي عقده في أواخر أبريل الماضي بمدينة سرت قبل أن تعصف به إرادة التعطيل ونزعة الميل إلى وضع العراقيل.

لا مؤتمر سرت في الداخل انعقد، ولا مؤتمر أديس أبابا في الخارج انتظم، ورغم الجهود التي يبذلها الاتحاد الأفريقي منذ سنوات، إلا أن مختلف المؤشرات تؤكد أن قرار المصالحة لا يمكن أن يصدر إلا عن شخصيات ذات وزن اجتماعي وثقافي وسياسي، ولا أطماع لها في التمسك بالسلطة، ولا جشع لديها في جمع المال وتخزينه، ولا استعداد عندها للعمالة والتبعية للأجنبي على حساب الشركاء في الوطن، ولا عقلية إقصائية تسيطر عليها، ولا عدوانية ضد الآخرين تقود تحركاتها. وشخصيات كهذه قد تكون موجودة، ولكنها ليست فاعلة، بينما الفاعلون الأساسيون يتميزون بصفات أخرى.

المصالحة لا تزال بعيدة المنال، وكثيرة هي القوى الخارجية من إقليمية ودولية التي ترغب في ديمومة الوضع الحالي، حيث لا تريد للشعب أن يختار حاكمًا يمكن أن يستعيد استقلالية القرار الوطني وينهي سنوات التبعية لهذه العاصمة أو تلك

من الصعب جدًا الحديث عن مصالحة في ليبيا من دون اتخاذ الإجراءات وتحقيق التوافقات التي تضمن مصالح مختلف الأطراف المستفيدة من استمرار الوضع الحالي على ما هو عليه، والتي لا تستطيع نفي حقيقتها في أنها تميل إلى الإقصاء، وتنزع إلى العدوانية في علاقاتها مع الآخر، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمحاولة تقريب المسافات بينها وبين من ينافسها سواء على مقاليد السلطة أو على مفاتيح الثروة.

عندما نتأمل المشهد الليبي حاليًا، سنجد أمامنا العاصمة طرابلس وقد خضعت لحكم آل الدبيبة، ومن ورائه المستفيدون من استمراره، والمنافحون عنه، ومن يدعمون فكرة رئيس حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، المهندس عبدالحميد، الذي يطمح إلى ديمومة الكرسي في مكتبه بطريق السكة سنوات بلا عدد، والذي يعتبر نفسه أفضل ممن سبقوه بمن فيهم الراحل معمر القذافي نفسه الذي كان وراء ظهوره المبكر في واجهة الحياة كمهندس مسؤول عن تنفيذ عدد من المشاريع الكبرى.

وكما هناك عبدالحميد الدبيبة على رأس الحكومة المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي في فبراير 2021، هناك ابن عمه إبراهيم الدبيبة الذي يمكن اعتباره رئيس حكومة الظل، بل والفاعل الأساسي في الملفات الكبرى، والذي بات خلال الفترة الماضية ينسق مع سامي المنفي، شقيق رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ومبعوثه الخاص، كما كانت لمشاوراته مع صدام حفتر نتائج حاسمة في عدد من القرارات التي فاجأت الرأي العام وأثارت جدلًا واسعًا في الشارع الليبي، من بينها قرار الإطاحة برئيس المؤسسة الوطنية للنفط مصطفى صنع الله في يوليو 2022 وقرار الإطاحة بمحافظ مصرف ليبيا المركزي الصديق الكبير في أغسطس 2024.

يستفيد الدبيبة من تناقضات المشهد الميداني في المنطقة الغربية، ومن الاختلاف في وجهات النظر بين القيادات الاجتماعية في مصراتة، ومن تناقض المصالح بين التيارات السياسية بما فيها تيار الإسلام السياسي، كما يستفيد بقوة من التمدد الروسي في شرق البلاد وجنوبها، ليقدم نفسه لواشنطن وحلفائها الغربيين على أنه يرفض التخلي عن البلاد للروس، وأنه الوحيد القادر على التصدي لمشاريع الجنرال خليفة حفتر التوسعية، ويجد فيه الأتراك الشخص المتحمس لمزيد تمكين أنقرة من مواقع النفوذ في مناطق سلطته، سواء من حيث الحضور العسكري والأمني أو من حيث الاستثمار في المشاريع الكبرى وتنفيذها.

وفوق ذلك، فإن الدبيبة يدرك جيدًا كيف يتعامل مع الكثير من المؤثرين عندما يلاحظ أنهم قد يمثلون خطورة عليه، أو عندما يعتقد أنه يمكن أن يستفيد منهم، ولذلك كان في مناسبات كثيرة قادرًا على كسب رهاناته، وقد بدأ ذلك من مؤتمر تونس للحوار السياسي في نوفمبر 2020 ما أدى إلى حصول بلبلة في البعثة الأممية وصدم رئيستها آنذاك بالوكالة ستيفاني وليامز، ثم في مؤتمر جنيف الذي شهد انتخاب رئيسي الحكومة والمجلس الرئاسي، ومن هناك كان يراهن على أن يستمر في السلطة ليس لمدة 9 أشهر كما كان مقررًا، ولا 18 شهرًا كحد أقصى، وإنما مدة أطول بكثير. والطريقة الأفضل هي قطع الطريق أمام أيّ محاولة لتنظيم الانتخابات، وتعطيل المصالحة الوطنية، وتثبيت خارطة التقسيم التي تشكلت بالأساس بعد انقلاب الإسلاميين وطوائفهم وميليشياتهم على نتائج انتخابات 2014 وما نتج عنه من دمار وخراب بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت على يد منظومة “فجر ليبيا”.

وبالنسبة إلى المنطقة الشرقية، فنحن أمام دولة تكاد تكون مستقلة بذاتها، تخضع لسلطة مركزية يديرها من ضاحية الرجمة ببنغازي الجنرال خليفة حفتر ومن ورائه أبناؤه الممسكون بالملفات الأساسية، وأبرزهم الابن الأصغر صدام، آمر لواء طارق بن زياد المعروف بأنه أكبر قوة ضاربة على الأرض، والذي كان والده كلفه في يونيو الماضي برئاسة أركان جيش البر، ومنحه في أغسطس رتبة “فريق”، ويرجح المقربون من مصادر القرار أن يتم تعيينه خلال الأسابيع القادمة في رتبة نائب القائد العام للجيش، أي نائب والده الذي يحتفل في أوائل نوفمبر القادم بعيد ميلاده الحادي والثمانين.

كما أن عائلة حفتر باتت تضع يدها على كافة مواقع صناعة القرار ومختلف المجالات الحيوية في مناطق نفوذها سواء بشرق البلاد أو وسطها أو جنوبها، ومن ذلك سيطرتها على أغلب المنشآت النفطية من حقول إنتاج وموانئ تصدير، وهي التي تشرف على إدارة عملية إعادة الإعمار في بنغازي ودرنة وسرت وغيرها من المدن، وتتولى السلطة التنفيذية عبر جناح مدني هو الحكومة المنبثقة عن مجلس النواب برئاسة أسامة حماد. وفوق ذلك، فإن مجلس النواب لا يستطيع الخروج عن إرادتها وإنما يسعى دائمًا إلى أن تتماهى سياساته وتنسجم قراراته مع سياسات الجنرال وقراراته.

الزيارة التي من المنتظر أن يؤديها الوفد الأفريقي، ستكون خطوة مشكورة من الاتحاد، ولكنها لن تثمر عن أي نتيجة إيجابية، ولن تفتح باب المصالحة الذي لا يزال مغلقًا منذ العام 2011

وكل من يتابع الشأن الليبي يدرك جيدًا أن مناطق نفوذ قوات الجيش تدار وفق حكم عائلي ولكن من دون تشريع دستوري واضح ومعلن، والجنرال حفتر يراهن على لعبة التوازنات السياسية والجيوسياسية، وخاصة من خلال علاقاته القوية مع روسيا، وتبريره كل مواقفه وقراراته بأن البديل عنه وعن نظامه هو حالة الفوضى التي لا تزال سائدة في غرب البلاد، وحالة العبث المتواصل بإيرادات النفط، وأن على الغرب الاعتراف بسلطته ودوره القيادي والسماح له بتسليح قواته ومنحه الحرية الكاملة ليبسط نفوذه على كافة مناطق البلاد مقابل التخلي عن التحالف مع موسكو.

وخلال العامين الماضيين، بات أبرز هدف للجنرال وفريقه هو محاصرة سيف الإسلام القذافي وأنصاره، ومنعهم من التحرك، والتأكيد على أن لا مجال للسماح لأنصار النظام السابق بالتطلع للمشاركة في العملية السياسية أو العودة إلى الحكم، وكل من يقول غير ذلك مصيره السجن. كما أن لا مجال لانتقاد مواقف أو تصرفات المشير حفتر أو أسرته أو التساؤل عن إيرادات النفط أو عن أموال إعادة الإعمار، وكل من يخالف ذلك يكون مصيره كمصير عضو مجلس النواب إبراهيم الدرسي الذي تم اختطافه منذ مايو الماضي دون أن يتم الكشف عمّا جرى في اليوم الموالي، والذي يرجح الكثير من أقاربه أن يكون عرف مصير النائبة سهام سيرقيوة التي تم تغييبها منذ العام 2019 وتبين لاحقًا أنها اغتيلت بسبب مواقف سياسية عبرت عنها في وسائل الإعلام.

في ظل الواقع المتشعب فإن من يحكمون في طرابلس ومن يحكمون في بنغازي غير مستعدين للمصالحة لاسيما مع تشكل دكتاتورية على الأرض تسيطر على مؤسسات الدولة وتبسط نفوذها على الثروة، وتمتلك القدرة على اختراق المجتمع بوضع يدها على لقمة عيش المواطنين البسطاء، وتستغل الصراع الدولي على النفوذ بالمنطقة لتلعب على حبال التوازنات. وإلى جانب ذلك، فهي ترفض أن يكون للبلاد دستورها الذي يمكن أن يحل مشكلة النظام السياسي، وأن يتم توحيد المؤسسة العسكرية، كما ترفض نزع سلاح الميليشيات وإعادة الأمانة إلى الشعب ليختار من يحكمه.

لأجل ذلك، وغيره، فإن المصالحة لا تزال بعيدة المنال، وكثيرة هي القوى الخارجية من إقليمية ودولية التي ترغب في ديمومة الوضع الحالي، حيث إنها لا تريد انتخابات قد تعيد إلى الواجهة رموز النظام السابق وعقيدته، ولا تريد للشعب أن يختار حاكمًا يمكن أن يستعيد استقلالية القرار الوطني وينهي سنوات التبعية لهذه العاصمة أو تلك، ولا تريد لليبيا أن تكون دولة ديمقراطية حقيقية لأن ذلك يعني أن يصبح القرار بيد الشعب، وبالتالي بيد من يعبّر عن إرادة الجماهير، ومن يحمي سيادة البلد من عبث العابثين وأطماع الطامعين.

الزيارة التي من المنتظر أن يؤديها الوفد الأفريقي خلال الأسبوع القادم، ستكون خطوة مشكورة من الاتحاد، ولكنها لن تثمر عن أي نتيجة إيجابية، ولن تفتح باب المصالحة الذي لا يزال مغلقًا منذ العام 2011. لو كان الأمر بيد القوى الاجتماعية لتمت المصالحة في جلسة أعيان وقادة المدن والقبائل، ولكن الأمر بيد من يملك مقاليد السلطة ومفاتيح الثروة ومن يده على الزناد وعينه على إيرادات النفط. لذلك لا يزال هدف الأفارقة بعيدًا عن التنفيذ، وقد أدرك العرب ذلك، واختاروا أن يجنّبوا أنفسهم الصداع بعدم الخوض في موضوع المصالحة في ليبيا.

8