ليبيا أمس، وإيران اليوم

يتهم ولي الله، آية الله، وكيل الله، المرشد الأعلى، علي خامنئي، الولايات المتحدة وإسرائيل و”مأجوريهما” وبعض الإيرانيين الخائنين في الخارج بتدبير الثورة الشعبية التي أسماها “أعمال شغب واضطرابات”، ولكن الواقع كذبه بسرعة، حين كشف نفاق الأميركيين والإسرائيليين والأطلسيين الذين أثبت الواقع أن تضامنهم مع الثورة الإيرانية بالكلام الفاضي، علنا، وسرّا بإمداد آلة القمع الإيرانية بسبعة مليارات دولار لمساعدتها على المزيد من النار والحديد.
فقد ندد البيت الأبيض باستخدام العنف ضد المظاهرات السلمية في إيران. واستدعت بريطانيا القائم بأعمال السفارة الإيرانية للتشاور حول ملف قمع المحتجين. وقال وزير الخارجية البريطاني جيمس كليفرلي إن “العنف الذي يتعرض له المحتجون في إيران على يد قوات الأمن صادم حقا”.
◙ رغم أن هذا النظام المارق والمتمرد على شعبه قد أكثر من أعدائه وخصومه المتربصين به، إلا أن الولايات المتحدة وحليفاتها لم تسارع، كما كان منتظرا، إلى اغتنام الفرصة ومساعدة الثوار على الانتصار
طبعا تتذكرون، ولا ريب، ما حدث في ليبيا عام 2011. فلم يكن الراحل العقيد معمر القذافي يملك ميليشياتٍ يرسلها لاحتلال بلاد الله وقتل أهلها ونهب خيراتها وتعطيل مؤسساتها وتضليل شعوبها وتجهيلها. ولم يختطف موظفين دوليين، ولم يَبلغ نظامُه المرتبة الأولى عالميا بالإعدامات، ولم يرسل مفخخاته وصواريخه ومسيَّراته إلى المطارات والموانئ ومصادر الطاقة في الدول المجاورة، ولم يهدد الملاحة الدولية، ولم تمارس أجهزته الأمنية ضد شعبه واحدا في المئة من الهمجية التي تميز بها الحرس الثوري أمس، واليوم، والتي سيظل عليها إلى آخر يوم في حياته. والأهم أن القذافي لم ينافس “الشقيقة” إسرائيل في امتلاك السلاح النووي. ولكن، وفور اندلاع التظاهرات المعادية للنظام في بنغازي هرولت الدنيا كلها إلى دعمها، ليس بالكلام والبيانات فقط، بل بالطائرات والمدافع والصواريخ التي تبرع بها حلف الناتو وجيوش بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيران، وبأموال القطريين، رغم أن المتظاهرين في بنغازي كانوا يفاخرون، علنا، في هتافاتهم وبيانات زعمائهم، بأنهم إخوانٌ مسلمون، ومبشرون بالعنف والتخلف والنهب والسلب والسلاح المنفلت، ومتعهدون بجعل ليبيا دولة فاشلة. أما المتظاهرون الإيرانيون، اليوم، فهم، في أغلبهم، شباب متنورون يرفضون الإرهاب والغزو والاعتداء على دول الجوار، ويطالبون بالديمقراطية والعدالة وحرية العقيدة والرأي، وبالدخول إلى حضارة القرن الحادي والعشرين.
حتى الجامعة العربية التي اشتُهرت بطبيعتها التوفيقية الباهتة الباردة في مواجهة الكوارث التي تحل بالوطن العربي، سارعت إلى نزع ثوب وقارها، وخرجت عن صمتها، ودعت المجتمع الدولي إلى التدخل العسكري لضرب دولة عضو في الجامعة، بذريعة حماية المدنيين.
طبعا لم تكن كل تلك الحمية العربية والأجنبية حبا بعيون الليبيين، بل كرها بالعقيد القذافي، وانتقاما منه، وردا على أفكاره وتصريحاته المعلنة ضد الولايات المتحدة وأوروبا والحكام العرب الذين اتهمهم بالعمالة للأجنبي.

◙ المتظاهرون الإيرانيون اليوم هم في أغلبهم شباب متنورون يرفضون الإرهاب والغزو والاعتداء على دول الجوار ويطالبون بالديمقراطية والعدالة وحرية العقيدة والرأي
وقبل فتح الملف الإيراني لتفصيل الظروف الموضوعية المكتملة التي أشعلت الثورة الإيرانية، اليوم، لا بد من التذكير بأهمية إيران، شعبا ودولة، للمنطقة وللعالم، على حد سواء. ومما يزيد من أهميتها موقعُها الجغرافي وحدودها الواسعة وثرواتها الطائلة وعراقة شعبها الحضارية الضاربة في التاريخ البشري، من أيام زرادشت، وربما قبله.
وإلى ما قبل قيام دولة الخميني الدينية الطائفية العنصرية المتطرفة، بقليل، كانت علاقات الشعب الإيراني بجيرانه وبشعوب العالم الأخرى إيجابية وطبيعية ومثمرة وبناءة تقوم على أساس الاحترام المتبادل والتعاون والتفاهم والتناغم، والعمل على حماية أمن المنطقة والحفاظ على استقرارها وازدهارها.
ونحن العراقيين كنا وما نزال الأقربَ إلى الإيرانيين من غيرنا، على امتداد التاريخ الطويل، والأكثر تلاقحا وتمازجا، اُسَريا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا وسياسيا وأمنيا، ولم تستطع جميع غزوات الأباطرة الفرس الغابرة ومظالمهم أن تشوه العلاقة الحميمة بين الشعبين.
ولكن منذ هيمنة الفكر الخميني السلفي المتزمت فقدت إيران وجهها الحضاري ومدنيتها وتقدميتها وإيمانها بأهمية الاعتدال مع الداخل، والعقلانية مع الخارج.
ولعل أكبر وأهم خسارة ألحقها الخميني بدولة إيران وشعبها هي حملات التطهير الانفعالية التي طالت أهم الخبراء والعلماء والاختصاصيين والإعلاميين والفنانين والرياضيين، الأمر الذي أدخل المجتمع الإيراني في حالة من العجز والتخبط والفراغ، ووسَّع شرائح المعارضين الناقمين.
والأكثر إضرارا بلـُحمة المجتمع الإيراني كان اعتماد الارتجال والغوغائية في إدارة الدولة ورسم سياساتها الداخلية، بما فيها اختيار الطريقة المناسبة لمعاملة الأقليات الدينية والطائفية والعرقية المختلفة في الداخل، والاستهتار بالقرارات الدولية، في الخارج.
فباكورة إنجازاته الهمجية كانت احتلال السفارة الأميركية من قبل شباب الثورة، واختطاف العاملين فيها، بقيادة أحمدي نجاد الذي أصبح يوما رئيسا للجمهورية، والتي كانت البداية لمسلسل نهجه العدواني الإرهابي، وتجاوزاته وتعدياته ومظالمه التي ظلت تتسارع وتتسع وتصبح أكثر خطورة، على أيدي جحافل الحرس الثوري وفرق المعممين المحافظين المتشددين.
وأفضل مثال على ذلك حجمُ القسوة والعنف الدموي الذي واجه به قادة النظام الإيراني تظاهرات رفاقهم السابقين الذين اعترضوا على تزوير الانتخابات، وفي مقدمتهم المرشح الرئاسي السابق مير حسين موسوي ومهدي كروبي وعشرات غيرهم، بينهم رؤساء جمهورية سابقون وقادة دينيون وسياسيون آخرون كثيرون.
◙ الجامعة العربية التي اشتُهرت بطبيعتها التوفيقية الباهتة الباردة في مواجهة الكوارث التي تحل بالوطن العربي، سارعت إلى نزع ثوب وقارها، وخرجت عن صمتها،
ويشكو المواطنون الإيرانيون، وخاصة منهم أولئك الذين يعانون من الفقر والعوز والحاجة والبطالة، من بعثرة النظام مئات الملايين من الدولارات سنويا على أحزاب ومنظمات وميليشيات ومرتزقة وعمليات تخريب وقتل واغتيال وخطف وحرق وتهديد وابتزاز في دول عربية أو إسلامية عديدة، بدل إنفاقها في الداخل لتخفيف معاناة الناس المعيشية الخانقة.
أما السياسات العنصرية والطائفية المتشددة التي عامل ويعامل بها النظام القوميات والأقليات الدينية والطائفية الأخرى فقد جعلت من تلك الأقليات قنابل موقوتة وقد حان موعد انفجارها في وجهه اليوم.
ورغم أن هذا النظام المارق والمتمرد على شعبه وعلى مبادئ الجيرة والقوانين الدولية قد أكثر من أعدائه وخصومه المتربصين به، إلا أن الولايات المتحدة وحليفاتها لم تسارع، كما كان منتظرا، إلى اغتنام الفرصة ومساعدة الثوار على الانتصار إلا أنها، كما يبدو، لا تريد لثورة ديمقراطية حداثية أن تنتصر.
ولكن منطق التاريخ وحكم الزمن يؤكد أن الذي سوف ينتصر، رغم معارضة الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا والصين وكوريا الشمالية والهند، هو الشعب الذي قرر وصمد ولن يستسلم ولن يلين.