لو قرأ أمير الشعراء العرب الإلياذة والأوديسة لتغير مساره

لا نقرأ من الشاعر غير قصائده ومن الكاتب غير نصوصه، لكن خلف النصوص هناك عالم كامل من الأسرار الهامة في معرفة طريقة تشكل النص وجودته من عدمها. ومن ناحية أخرى فخلف النص أغلب المؤلفين، وخاصة منهم الشعراء، يرفضون النقد ويبجلون المدح والثناء. ولا يشذ أمير الشعراء أحمد شوقي عن هذا، فقد كان يرفض نقاده بأساليب ملتوية ولكنه لا يعاديهم في العلن، بينما يمثل رأي عميد الأدب العربي طه حسين نقطة هامة في فهم بعض من خفايا الشاعر.
من مآخذ عميد الأدب العربي طه حسين على أمير الشعراء أحمد شوقي أنه لم يكن يقرأ كما ينبغي له أن يقرأ. ويرى أن شوقي كان في أول أمره مثقفا يحب الثقافة، ويشيد في طلبها والتزيد منها، ولكنه كان كغيره من الشبان المصريين، يسيرون في الدرس والتحصيل على غير هدى، ولاسيما حين يدرسون في أوروبا.
ويؤكد أن شوقي لم تكن له عقيدة صريحة في الشعر، ولا حاول أن يكوّن لنفسه هذه العقيدة، ولا يفكر في الشعر إلا حين يقوله، إنما هو كما يقول محمد حسين هيكل في شيء من الدهاء “مجدد حينا، ومقلد حينا آخر”، وهو في تجديده وتقليده لا يصدر عن عقيدة فنية واضحة، وإنما يتأثر بالساعة التي يتهيّأ فيها لقول الشعر، وبالظرف الذي يقرض فيه الشعر ليس غير.
نقد الشاعر
يقول طه حسين “لغيري أن يمدح شوقي بلا حساب، أما أنا فلا أريد أن أمدح، ولا أريد أن أذم، وإنما أريد أن أنقد، وأن أوثر القصد في النقد، وأظن أن شوقي يؤثر النقد المنصف، على الحمد المسرف. وأظن أني أجلّ شوقي وأكبره بالنقد أكثر من إجلائي إياه بالتقريظ والثناء، وقد شبع شوقي ثناء وتقريظا، وأحسبه لم يشبع نقدا بعد”.
ويضيف “أنا إذن واثق بأني لن أُغضب شوقي إذا نقدته، وربما أغضبته إذا غلوتُ في الثناء عليه. فهو شاعر يحب الشعر للشعر. لأنه يجد في نفسه عواطف يحب أن يضعها، وإحساسا يحب أن يذيعه. هو شاعر؛ لأنه يشعر وليس هو بالشاعر لأنه يريد أن يتكلم لا أكثر ولا أقل”.
ويرى عميد الأدب العربي أن شخصية شوقي ثنائية، فهو مؤمن، وهو محبّ للحياة ولذاتها، أو قل هو زاهد ومستمتع معا. وقد حاول هيكل أن يعلّل هذه الثنائية، فكدّ وجدّ ولعله وفّق، ولكنه أعرض عن شيء كنت أحب ألا يعرض عنه، أعرض عن الصناعة الشعرية التي تُظهر للشعراء شخصيات مختلفة جدا، ولاسيما في أدبنا العربي العصري، الذي لا يمثل نفس الأديب، فازدواج الشخصية الذي يلمحه هيكل في شعر أمير الشعراء لا يدل في حقيقة الأمر إلا على أن أمير الشعراء يقلد المؤمنين والمستمتعين، كما يقلد غيرهم من أصحاب الشعر.
شوقي أراد أن يمتاز فعرض للفلسفة، ولفلسفة أرسطوطاليس، ولكنه لم يستقها من مصادرها كما يفعل العلماء
غير أن هذا الرأي لا يعني أن طه حسين غير معجب بشعر شوقي، فيقول “إنني أعجز العجز كله إن أردت أن أصف لك جمال قطعة صافية متلألئة يتحدث فيها الشاعر إلى فرعون (في قصيدته التي يخاطب فيها اللورد كارنارفون) فيسأله، ويستنطقه بالحكمة العالية والموعظة الحسنة، ويضع أمامه هذه الألغاز التي عجز العقل والوجدان عن حلها: ألغاز الحياة والموت، ألغاز البعث والنشور، ألغاز الصلات الاجتماعية بني الناس”.
ويرى أن شوقي بعد أن عاد إلى مصر من المنفى (إسبانيا 1915 – 1920) تحوّل تحولا خطيرا حقّا، لا نكاد نعرف له نظيرا عند غيره من الشعراء الذين سبقوه إلى أدبنا العربي، وتحوّل من ناحيتين خطيرتين: فإما إحداهما فهي أن شعره التقليدي تحرّر من التقيد بظروف السياسة، فانطلق. كان شعره يصبح صورة لأهواء الشعب من حوله ولميوله، فكان ينطق بلسانه. والناحية الثانية هي أنه فجأة استكشف نفسه، وإذا هو شاعر قد خُلق ليكون مُجددا، فأقبل على التجديد في السنين الأخيرة من حياته، فأدخل في اللغة العربية، وفي الشعر العربي خاصة، فنّا جديدا لم يسبقه أحد إليه، وهو فن التمثيل الشعري. ومهما يكن من شيء فحسب شوقي أنه قد ردّ إلى الشعر العربي قوته ورصانته ومتانته، ونضرته وبهاءه القديم. ومهّد خير تمهيد لنهضته الحديثة في مصر، بل لزعامتها وقيادتها لشعراء العرب في الأقطار الإسلامية المختلفة. وحسبه أنه بعد البارودي، الشاعر الذي ردّ إلى الشعر العربي حياته الأولى.
وأنا هنا أخذت نفسي بأن أنسى ما كان من خصومات باطلة، وألا أستبقي إلا الخير الذي يدعو إلى الحب، ويثير في النفس عاطفة الحزن والألم، ويُطلق اللسان والقلب بهذا الدعاء الخالص الصادق البريء الذي نسميه الاستغفار.
لا أعداء ولا مهادنة
لو قرأ شوقي الإلياذة والأوديسة كاملتين وفهمهما لأطلق لنفسه حريتها وأنشأ الشعر القصصي في اللغة العربية
يعترف طه حسين أنه كان يؤثر حافظا على شوقي في حياتهما، وكان يختصّ شاعر النيل من المودة والحب بما لم يختص به أمير الشعراء، لأن روح حافظ وأفق روحه، ولأن كثيرا من أخلاق حافظ وافق أخلاقه.
أما طبيعة شوقي، فيرى طه حسين أنها كانت معقدة كما يخبرنا شوقي نفسه، فيها أثر من العرب، وأثر من الترك، وأثر من اليونان، وأثر من الشركس. التقت كل هذه الآثار وما فيها من طبائع، واصطلحت على تكوين نفس شوقي، فكانت هذه النفس بحكم هذه الطبيعة أو الطبائع أبعد الأشياء عن البساطة، وأنآها عن السذاجة، وهي بحكم هذا التعقيد والتركيب خصبة كأشد ما يكون الخصب، غنية كأوسع ما يكون الغنى. ثم لم تكد هذه النفس الخصبة الغنية المتوقدة تتصل بالحياة حتى لقيت من حوادثها وتجاربها ومن كنوزها وغناها ما يزيدها خصبا إلى خصب وثروة إلى ثروة. وانضم إلى ذلك عنصر جديد هو العنصر الفرنسي الذي عمل في عقله وخياله ومزاجه كله.
عاشر شوقي العرب في شعرهم وأدبهم فعظم حظُّه من العربية، وعاشر الترك في حياته اليومية، واتصل بهم أشد اتصال، فعظم العنصر التركي فيه، ولسوء حظ الأدب الحديث لم يعاشر شوقي قدماء اليونان كما عاشر قدماء العرب، ولو فعل هذا لأهدى إلى مصر شاعرها الكامل. فلو أن شوقي قرأ الإلياذة والأوديسة كاملتين وفهمهما حق الفهم، وأطلق لنفسه حريتها لحاول أن يُنشئ الشعر القصصي في اللغة العربية، لا أقول على نحو الإلياذة والأوديسة من الطول، ولكن على نحو ما كانت الإلياذة والأوديسة من الفن.
ولو اتصل شوقي بالمجددين الذين عاصروه في شبابه من الشعراء الفرنسيين لسلك شعره سبيلا أخرى، ولكنه لم يفعل. ولو أنه اختلف إلى أنديتهم في باريس حين كان يقيم فيها – ولم تكن أنديتهم مغلقة – لتغيّر مثله الأعلى في الشعر. لكن شوقي قصّر بنفسه عن هذه المنزلة أو قصرت به الظروف، إما لأنه لم يقرأ كما ينبغي أن يقرأ، وإما لأنه لم يعمل كما ينبغي أن يعمل. هاتان الخصلتان هما اللتان قصّتا جناح شوقي فلم يستطع أن يرتفع إلى حيث كانت تعده الطبيعة من سماء الشعر والخيال.
الشاعر لم يكن في حياته اليومية عدوا ظاهرا، إنما الناس جميعا أصدقاؤه وخلصاؤه، يظهر لهم صفحة واضحة نقية
وبعد عودته في منفاه بإسبانيا ذاق شوقي لذة الحرية، وظهر فيه عنصره العربي وعنصره اليوناني، فهو يحب الهواء الطلق، وهو يحب الديمقراطية، وهو ينزل إلى الشارع ويطوف فيه حيث يلقى الناس ويتحدث إليهم ويسمع منهم ويشاركهم في لذاتهم وآلامهم، ثم يرقى إلى سماء الشعر فإذا هو ترجمانهم الصادق ومرآتهم المجلوة الصافية. وكذلك الشعب قوي دائما، جذاب دائما، منه رفعة العظيم، وبه خمول الخامل. وجذب الشعب شوقي حتى فتن بعامة الناس وأغمارهم، وكانت هذه الفتنة مصدر عظمته الباهرة ونبوغه الصحيح، فأصبح شاعر الفن، وأصبح شاعر الشعب، وأصبح شاعر مصر، كما أصبح شاعر الشرق العربي.
حتى إذا أظل الشرق العربي كله، عاد شوقي فرفع بصره إلى السماء، بعد أن ملأ عينيه مما في الأرض، وإذا هو يرى في السماء الفن الخالص، يرى التمثيل ويرى الغناء، فينفق بقية عمره في التمثيل والغناء. أما في الغناء فقد أجاد من غير شك، وأما في التمثيل فقد غنى فأطرب وأثّر في القلوب، ولكن لم يمثل شيئا لأن التمثيل لا يرتجل ارتجالا ولا يهجم عليه في آخر العمر، وإنما هو فن يحتاج إلى الشباب، ويحتاج إلى الدرس، ويحتاج إلى القراءة الكثيرة. وقد أضاع شوقي شبابه في القصر، وأضاع نشاطه وحدة ذهنه قبل أن يفرغ للدرس، وقد كان شوقي قليل القراءة، فكان تمثيله صورا ينقصها الروح، وإن حبّبها إلى الناس ما فيها من براعة في الغناء. ولكن بعامة فإن شوقي هو منشئ الشعر التمثيلي في الأدب العربي.
إن شوقي لم ينهض لخصومة ناقد من نقاده، بل لم يجرؤ على أن يلقى نقاده بالعتب، وإنما كان يعاملهم معاملة الأراقم، لا يلقاهم وإنما يأخذهم من خلف بأطراف اليد. يغري بهم ويؤلب عليهم، ثم يلقاهم باسما وادعا. ولا يتحرج من زيارتهم واستزارتهم كأنهم من أحب الناس إليه. ولم يكن في حياته اليومية عدوا ظاهرا، إنما الناس جميعا أصدقاؤه وخلصاؤه، يُظهر لهم صفحة واضحة نقية، من وراء هذه الصفحة، صفحات بيض، وصفحات سود. تلقاه في “الجهاد”، وتلقاه في “الاتحاد”، وتراه في “السياسة”، وتراه في “الأهرام”، وتراه في بار اللواء، وتراه في “البعكوكة”، هادئا دائما لا يضطرب، منخفض الصوت قلما تسمعه دون إصغاء إليه.
تقريظ شوقي
ويعلق طه حسين على قصيدة شوقي التي يقول في مطلعها:
اللهُ أكبرُ كم في الفتح من عجب ** يا خالد التُرك جدد خالد العرب
فيقول: أضحكنا مطلعُها قبل كل شيء، فكم عجبنا من ذكر خالد، ومقارنة مصطفى كمال (أتاتورك) به! حين كان العالم الحديث يضطرب بذكر القواد النابهين في الحرب الأخيرة (الحرب العالمية الأولى)، وحين كانت صور هؤلاء القواد النابهين في الانتصار والانهزام تملأ النفوس إعجابا، وحين كان الشرق في ذلك الموقف الذي كان ذليلا يشوبه شعور بالعزة وطموح إليها، والذي كان أثرا من آثار هؤلاء القواد. ضحكنا من قياس مصطفى كمال إلى خالد بن الوليد.
والحق أننا لا نعرف أمدح شوقي مصطفى كمال حين قرنه إلى الفاتح العربي القديم، أم ذمّه؟
ويذهب طه حسين إلى تقريظ شوقي لكتاب أحمد لطفي السيد “الأخلاق” الذي ترجمه عن أرسطوطاليس، ويرى أن شوقي لم يمدح أرسطوطاليس، وإنما مدح أفلاطون.
وقال: شوقي نفسه يُدهش إذا قُلت إنه لم يمدح أرسطوطاليس، وإنما مدح أفلاطون. نعم. أراد عمْرا، وأراد الله خارجة. ولكنه أراد عمرا بالخير، فانصرف هذا الخير عن عمر إلى خارجة، لأن الشاعر لم يحسن تلمس السبيل إلى عمر، ولولا أن نفوس الفلاسفة والحكماء رضية بطبيعتها لكان من حق أرسطوطاليس أن يخاصم شوقي، وأن ينفس على أفلاطون أستاذه هذا المدح، الذي جاءه من حيث لا يحتسب. أراد شوقي أرسطوطاليس، وأراد الله أفلاطون.
وبعد، فإن من الجحود والظلم ألا أُثني على هذا البيت القيم الملائم للحق ملائمة تامة وهو قوله:
لمسوا الحقيقة في الفنو ** ن وأدركوها في العلوم
هذا البيت آية في الصدق، فقد لمس اليونان الحقيقة في الفن، وأدركوها دون أن يلمسوها في العلم، أكرر أن هذا البيت آية في الصدق ومثل جيد للإيجاز البديع.
إن شوقي أراد أن يمتاز فعرض للفلسفة، ولفلسفة أرسطوطاليس، ولكنه لم يستقها من مصادرها كما يفعل العلماء، لأنه لا يحب أن يقرأ ولا يليق به أن يقرأ، وكيف يقرأ وله خيال يستطيع أن يصعد في السماء، فيرى فلسفة أرسطوطاليس في الجوزاء، وفلسفة أفلاطون في الثريا، وفلسفة سقراط في المريخ، فيأخذ من هذه الفلسفة ما يشتهي؟ وقد صعد خياله يومئذ في السماء، وتنقل بين الكواكب السيارة والثابتة، ثم تنزّل إلينا بفلسفة أضافها إلى أرسطوطاليس، فإذا هي فلسفة أفلاطون. وقد نبهتُه إلى ذلك يومئذ في “السياسة” فغضب وغضب أصحابُه وأنصارُه، وتحدث بعضهم بأن شوقي لم يخطئ، وإنما أخطأ أرسطوطاليس!