لويد أوستن أول وزير دفاع أميركي أسود يحلق على أجنحة القيامة

هل أوقفت أميركا الحرب في غزة لصالح حساباتها الإيرانية؟
الأحد 2021/05/23
"الجنرال المجهول" الذي يقود أكبر وزارة دفاع في العالم

مشهد الحرب الأخيرة في غزة، التي وضع له حدّ باتفاق وقف إطلاق نار هش، برز فيه صوت وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن الذي كان رأس حربة في التعبير عن الموقف الأميركي مما يجري في الشرق الأوسط. فقد كان اتصاله مع نظيره الإسرائيلي بيني غانتس الثلاثاء الماضي، تدخلا لم تعتد العلاقات الأميركية - الإسرائيلية مثله من قبل، حين عبّر أوستن عن “الأسى لسقوط ضحايا أبرياء من الإسرائيليين والفلسطينيين”. مؤكدا أن البنتاغون يدعم “وقف التصعيد وعودة الهدوء” بين الطرفين.

ومع أن هذا الكلام قوبل برد إسرائيلي رافض، على لسان غانتس قال فيه لأوستن إن “العملية العسكرية مستمرة بهدف إحلال الهدوء على المدى الطويل”. إلا أن العملية توقّفت تماما كما طلب الأميركيون، فهل كان موقف إدارة الرئيس جو بايدن من النزاع ما بين إسرائيل وحركة حماس المدعومة من إيران، متسقا مع سياسات واشنطن الداعمة لتل أبيب في مثل هذه الظروف، أم جزءا من نهجها في التعامل مع الملف الإيراني؟

طلب أوستن هذا لم يكن الأول، فقد سبقه اتصال مماثل مع غانتس قبل أسبوع، دعا فيه جميع الأطراف المعنية إلى اتخاذ خطوات لاستعادة الهدوء.

ومنذ جولته الأولى حول العالم بعد تعيينه وزيرا للدفاع، تولد انطباع عن أن أوستن أبعد من ملامحه الشخصية والمواقف السابقة له، بل حتى عن الدور المرسوم له والمهمة التي أوكلت إليه لتنفيذها واختياره لهذا المنصب الحساس جدا، داخلا التاريخ من أوسع أبوابه ومدونا اسمه كأول وزير دفاع أميركي من أصول أفريقية، وإن كانت سبقتها زيارة غير معلنة لأفغانستان في مارس الماضي، والتي أعلن حينها أن قرار سحب قوات بلاده منها أمر اتخاذه يعود إلى الرئيس بايدن.

جولة "يوم القيامة"

Thumbnail

الانطباع لم يتولد من طابع الزيارة ولا الدول التي زارها فقط، إنما ابتداء من الطائرة التي حملته من واشنطن في جولة شرق أوسطية أوروبية، حيث اختار إسرائيل كمحطة أولى له في هذه الزيارة التي وصلها الأحد الـ11 من أبريل الماضي، على متن طائرة “يوم القيامة”، التي تعدّ بمثابة إدارة عسكرية متكاملة في الجو، كما لو أنه لم يغادر مقر عمله في البنتاغون بواشنطن، وهي إحدى طائرات القيادة والسيطرة الأكثر تقدّما في العالم، صنعت بمواصفات عالية ونادرة خصيصا للرئيس الأميركي وكبار الضباط الذين يقومون بحمايته في حال حدوث هجوم نووي محتمل، واستخدام وزير الدفاع لها، حمل رسائل في عدة اتجاهات، ولها أكثر من دلالة على ما هو قادم في السياسة الخارجية للإدارة الجديدة في البيت الأبيض.

الجولة التي استمرت لستة أيام، ظهرت كإعلان مبكّر عن تأكيد أهمية الحليف الإسرائيلي، قبل أن تقوده إلى ألمانيا البلد الأكثر تواجدا للقوات الأميركية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، والمكان الذي يحتفظ له شخصيا بذاكرة خاصة، حيث كانت ألمانيا المحطة الأولى لبداية مشواره العسكري كملازم ثان في كتيبة المشاة الثالثة.

كأنما أراد أوستن إعادة فرد أجنحته العسكرية على مواضع نفوذه في الخرائط الدولية، مرورا بالعاصمة البلجيكية بروكسل الحاضنة للمقر الرئيسي لقيادة حلف شمال الأطلسي “ناتو”، منهيا رحلته في البلد المغرد حديثا خارج سرب الاتحاد الأوروبي بريطانيا، توأم الأميركيين في السياسة الدولية.

تلك الرسائل تفرض نفسها لطرح أكثر من سؤال عما ترسمه إدارة بايدن حيال الصين وروسيا وإيران، الدول الثلاث التي تأتي في مقدمة سلم الأولويات للقضايا الملحة الموضوعة أمام فريق الخارجية والدبلوماسية الجديد، وهي قضايا تقع مهمة تهيئة الظروف والأجواء الملائمة لمعالجتها على عاتق البنتاغون ورئيسه الجنرال المتقاعد الذي ما أن صادق مجلس الشيوخ الأميركي على تعيينه حتى واجه جدول أعمال مزدحما تضمّن اتصالا مع أمين عام حلف شمال الأطلسي، أكد خلاله تمتين وتعزيز الشراكة والتي كانت حجر الأساس في العلاقة ما بين بلاده وأوروبا، وزاد عليها خلال زيارته ألمانيا بتقديم وعد بإرسال 500 جندي أميركي إضافي إلى ألمانيا، ملغيا ما كان ترامب وعد به بإعادة الجنود الأميركان من ألمانيا.

أوستن الذي ولد في الثامن من أغسطس عام 1953، في مدينة موبيل الاباما جنوب الولايات المتحدة، نشأ في توماسفيل بولاية جورجيا، وحصل على شهادة بكالوريوس في العلوم العسكرية من الأكاديمية العسكرية الأميركية في “ويست بوينت” الشهيرة أواسط السبعينات، ومن ثم على شهادة الماجستير في التعليم من جامعة أوبورن، ومثلها في إدارة الأعمال من جامعة ويبستر، إلى جانب اتباعه دورات ضابط مشاة.

ضابط العمليات الحساسة

طلب أوستن من نظيره الإسرائيلي بيني غانتس وقف الحرب على غزة، يعتبر تدخلا لم تألفه العلاقات الأميركية - الإسرائيلية من قبل، حين عبّر الوزير الأميركي عن "الأسى لسقوط ضحايا أبرياء من الإسرائيليين والفلسطينيين".

مسيرته العسكرية طويلة وحافلة، إذ عين كضابط عمليات في إدارة التجنيد لمنطقة إنديانابوليس في الجيش الأميركي، وتم اختياره قائدا لكتيبة المشاة 22، كما تولى في عام 1993 قيادة اللواء الثالث في الفرقة 82، ثم ترأس قسما في هيئة الأركان المشتركة في أرلينغتون فيرجينيا.

في المناطق الساخنة في العالم، عمل أوستن قائدا للفرقة الجبلية العاشرة المشاة الخفيفة في أفغانستان كقائد لقوة المهام المشتركة، ثم قائدا للفيلق الثامن، وفي فبراير 2008 تربع على ثاني أعلى رتبة في العراق، قبل أن يصبح القائد العام للقوات الأميركية فيه، وليس غريبا أن أوستن يعدّ من معارضي الانسحاب الكلي من العراق، ويفضّل احتفاظ بلاده بحوالي 10 آلاف جندي، مع الإبقاء على خط لزيادة العدد إلى 20 ألفا.

أشرف الجنرال الأسمر على جميع القوات الأميركية والعمليات العسكرية الرئيسية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبعض أجزاء من جنوب آسيا، المنطقة التي تضم 20 دولة منها سوريا والعراق واليمن وأفغانستان ومصر ولبنان، وبعد سيطرة “داعش” على الموصل، قاد أوستن حملة عسكرية لمواجهته في العراق وسوريا، وفي عام 2015 أقر أوستن في جلسة استماع لمجلس الشيوخ حول القوات المسلحة أن برنامجا أميركيا هدف إلى تدريب السوريين لمحاربة “داعش” لم ينجح.

وبعد 41 سنة من الخدمة العسكرية أحيل إلى التقاعد في حفل أقيم بهذا الخصوص في جوينت بيس ماير-هندرسون، وأعلن حينها أنه فخور جدا بأن أتيحت له الفرصة لقيادة القوات في القتال، وأضاف “لقد رأيت قادتنا الشباب يقومون بأشياء مذهلة وخطيرة حقا”.

أهداف بايدن من أوستن

رسائل أوستن تطرح أكثر من سؤال عما ترسمه إدارة بايدن حيال الصين وروسيا وإيران، الدول الثلاث التي تأتي في مقدمة سلم الأولويات للقضايا الملحة الموضوعة أمام فريق الخارجية والدبلوماسية الجديد.
رسائل أوستن تطرح أكثر من سؤال عما ترسمه إدارة بايدن حيال الصين وروسيا وإيران، الدول الثلاث التي تأتي في مقدمة سلم الأولويات للقضايا الملحة الموضوعة أمام فريق الخارجية والدبلوماسية الجديد.

احتاج أوستن إلى استثناء يسمح له بالعمل كوزير للدفاع من الكونغرس الأميركي بمجلسيه النواب والشيوخ، إذ يلزم أي مرشح لوزارة الدفاع الانتظار لمدة 7 سنوات بعد الخدمة العسكرية، قبل أن يتولى الوظيفة الجديدة. الأمر ذاته حصل من قبل مع جيمس ماتيس وزير الدفاع الأسبق في عهد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.

ما يسجل لأوستن، لا كونه أول أفريقي يدخل التاريخ كوزير للدفاع، بل مسيرته الطويلة كأول عسكري من أصول أفريقية يقود كلا من فرقة مشاة وفيلق في الجيش في القتال، وأول ضابط يصبح نائب رئيس أركان الجيش، وأول من تولى القيادة المركزية الأميركية، وقد تعهد بالاتفاق مع بايدن على تعزيز التنوع في وزارة الدفاع التي يهيمن عليها البيض، رغم وجود تنوع في الرتب الأدنى.

الجنرال الأسمر صاحب خبرة هائلة في الشرق الأوسط ومناطق النزاع، فقد أشرف على كافة القوات الأميركية والعمليات العسكرية الرئيسية لها في منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وبعض أجزاء من جنوب آسيا، المنطقة التي تضم 20 دولة منها سوريا والعراق واليمن وأفغانستان ومصر ولبنان

سيرته العسكرية الحافلة بالإنجازات لم تشفع له، وبقي في نظر معارضيه ذاك “الجنرال المجهول” أو غير المرئي بحسب وصف صحيفة “نيويورك تايمز”، حيث أثيرت جملة من التساؤلات، حول الأسباب التي دفعت ببايدن إلى الذهاب نحو هذا الخيار، لاسيما وأن اختيار الجنرال المتقاعد أطاح بفرصة كانت محتملة قد تسمح بوصول أول امرأة أميركية لتسلم قيادة البنتاغون، وقد تداول بايدن مع مستشاريه بمجموعة أسماء قبل أن يستقر رأيه على أوستن، وبقيت الأمور في فترة التحضير لتسلم الرئيس الأميركي الجديد قيد التكهن حول من سيكون الفائز بلقب وزير الدفاع الجديد، كخليفة محتمل لمارك إسبر الذي أقاله ترامب قبل أسابيع من انتهاء ولايته، وقاد وزارة الدفاع بالوكالة كريستوفر ميلر، ورغم طغيان اسم ميشال فلورناي، والتي شغلت منصب وكيل الدفاع الأميركية للشؤون السياسية في عهد باراك أوباما، إلا أن الرئيس بايدن يبدو أنه قرر اللجوء إلى خيار انطلاقا من مقولة “يلي بتعرفو أحسن ما تتعرف عليه” وكونه على معرفة جيدة وعمل معه لسنوات، فقد استقر خياره الأخير على الجنرال المتقاعد من أصول أفريقية، وهو آخر الجنرالات الأميركيين الذي قادوا غزو العراق.

يؤخذ على أوستن أنه عارض إسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد عسكريا، ورفض تسليح المعارضة المسلحة السورية، ورفض كذلك فرض حظر جوي في السماء السورية، وعلى خلفية ذلك فقد كتب الصحافي جوش روجين إبان طرح اسم أوستن في التداول “إذا اختار أوستن الدعوة إلى سياسة أكثر حزما، فسيجد حليفا طبيعيا له في وزير الخارجية أنتوني بلينكن”، وأمل روجين أن ينتهج أوستن سياسة صادقة يحمي فيها المدنيين من الأسد، منهيا كلامه بالقول “هذا هو الفرق بين جنرال جيد ووزير دفاع جيد”.

أوستن أيضا كان أول مسؤول أميركي يعترف بدعم بلاده لميليشيات “حماية الشعب الكردية” في شمال سوريا، إلى جانب كونه المهندس العسكري لخطط محاربة “داعش”، الأمر الذي دفع ببعضهم إلى التكهن حول سياسة بايدن في تلك المنطقة الملتهبة، وكذلك إيران، والتنسيق عالي المستوى إلى درجة التوافق على الانسحاب من أفغانستان، الذي قد يفهمه بعضهم على أنه انسحاب إجرائي وهو ليس كذلك بالمطلق، فيأتي الانسحاب لحماية أرواح القوات الأميركية وجنود “الناتو” وإبعادهم عن منطقة مرشحة لتطورات ساخنة يصعب تقدير حجم سخونتها وخطورتها.

بروز دور أوستن في أحداث العنف التي جرت خلال الأسابيع الماضية في الشرق الأوسط، يزيد من تعقيد الموقف الأميركي وغموضه حيال إيران، والمقابل الذي تريد واشنطن تقديمه لطهران على طاولة المفاوضات والذي أخذ يتحول إلى بعد عسكري ولم يعد مقتصرا على العقوبات والجوانب السياسية.

يبقى أخيرا السؤال ومفاده هل يدفع أوستن ثمن هذا الاختيار، كما حصل مع وزير الخارجية الأسبق كولن باول، الذي أقر بأن مزاعم تبرير الحرب على العراق “وصمة عار في مسيرته السياسية”، والذي اعتبر أن غزو العراق “كان مؤلما”؟

8