لماذا يلجأ العرب في مسلسلات عن واقعهم إلى سيناريوهات كتبها الآخرون

ما زالت الدراما العربية تعاني من ندرة النصوص، ليس فقط الجيدة بل الأصيلة أيضا، وقد انكشف هذا العيب وزاد وضوحا مع وجود المنصات وإقبال الجماهير العربية عليها وانفتاحها على الدراما العالمية. ولم يعد خافيا على أحد موضوع الاقتباس ولا حتى التناص الذي يطلق عليه الجمهور صفة التشابه، فلماذا بات ذلك حلا سهلا ولِمَ تلجأ إليه الدراما؟
تابعنا في الدراما العربية الرمضانية لهذا العام أعمالا كثيرة تستلهم مواضيعها من الواقع ومن أعمال درامية أخرى، فتعيد صياغتها بطريقة يراها البعض مبالغا فيها، بينما يراها البعض الآخر أقل وطأة من الواقع نفسه.
بعض من تلك الأعمال أثار الكثير من الجدل كالمسلسل المصري “فاتن أمل حربي”، الذي كتبه الصحافي إبراهيم عيسى وأثار لغطا جماهيريا كبيرا ليس فقط في مصر وإنما في الوطن العربي، وذلك نتيجة التباين الشديد في وجهات النظر ما بين رافض ومؤيد لمضمونه.
ورغم أن العمل كان قد اعتمد في معظم تفاصيله على قصص واقعية استمدها الكاتب من ملفات قضايا الأحوال الشخصية إلا أن ضعف السيناريو وكتابته بطريقة بدت فيه تلك القضايا الأساس الذي يُبنى عليه السيناريو وليس العكس، جعل بعض النقاد يتخذون منه موقفا سلبيا.
أما العمل الثاني الذي أثار جدلا كبيرا فهو المسلسل السوري “كسر عظم” الذي كتبه علي معين صالح في أول تجربة كتابة درامية له وأخرجته رشا شربتجي، ولكن الجدل حوله، إعلاميا على الأقل، اقتصر على موضوع أصالته وهل هناك تناص بينه وبين نص آخر كان قد كتبه وباعه السوري فؤاد حميرة وتوقف إنتاجه لأسباب تعلقت حينها بما حصل في سوريا من أحداث.
مستويات التناص
المفارقة أن ما حصل مع مسلسل “كسر عضم”، كان بالإمكان أن يحصل مع منتجي مسلسلي “بطلوع الروح” و”الخليفة”، لو لم يكن الأخير عملا سويديا، لكن المقولة الخاطئة، والتي تعتمد في كنهها على أن المشاهد العربي نادرا ما يتابع المنصات وإن تابعها فنادرا ما يدقق أو ينتبه للاقتباسات والتناصات، ما جعلها أمرا مباحا وسهلا عند المنتجين.
تدور أحداث مسلسل “الخليفة” المكون فقط من 8 حلقات والذي سبق وأن عرضته منصة نتفليكس في العام 2020، ولاقى نجاحا كبيرا، حول مدينة الرقة السورية بعد احتلالها من داعش وإنشاء الدولة الإسلامية، ويبدو جليا وواضحا لمن شاهده أن الكاتب محمد هشام عبية قد قام بعمل تناص معه حين كتب مسلسل “بطلوع الروح” دون أن يشير أو حتى يلمح إلى ذلك.
ومصطلح التناص (intertextuality) الذي استخدمته لأول مره الناقدة جوليا كريستيفا في الأدب وعرفته كما يذكر سعيد علوش في كتابه “معجم المصطلحات الأسلوبية المعاصرة” بأنه “أحد مميّزات النصّ الأساسية، التي تحيل إلى نصوص أخرى سابقة عنها أو معاصرة لها”، ويقوم على فكرة عدم وجود نص يبدأ من العدم، فكلّ نص موجود هو مُعتمد في وجوده على نص آخر إمّا في الفكرة وإما في استخدام التراكيب والألفاظ.

كما أن التناص لا يقتصر على المضمون فقط بل يتجاوزه إلى المفردات، والتراكيب، والبناء والإيقاع، والصورة، والرمز، وبناء على ذلك لا يوجد نص أصيل في الأدب، فكيف الحال بالنسبة إلى الدراما التي لا بد وان تستمد مواضيعها إما من الأدب نفسه (رواية قصة، مسرحية)، أو التاريخ أو حتى الواقع.
على سبيل المثال الفنان السوري ياسر العظمة في مسلسله الشهير “مرايا” والذي يلعب بطولته ويقوم بكتابة معظم حلقاته، كان يشير في الجنريك (مقدمة العمل) إلى أنه استقى معظم حلقاته “مما شاهد وسمع ورأى”، فيضيف لعمله نوعا من المصداقية التي يطلبها الجمهور، كما أن بعضا من الأعمال الدرامية التي اشتهرت في السنوات العشر الأخيرة وخاصة من نوعيه البان آراب، اعتمدت في مادتها الأصلية على أعمال عالمية وأشارت إلى ذلك.
لكن محمد هشام عبية كاتب مسلسل “بطلوع الروح” والمكون من 15 حلقة، اكتفى بالإشارة فقط إلى أن العمل مستمد من قصة واقعية، وهي ليست المرة الأولى التي تعتمد فيها شركة صادق أنور صباح، الشركة المنتجة للعمل، على أعمال أجنبية تختارها وتقوم بمعالجتها دراميا لتكون صالحة للعرض ضمن بيئاتنا العربية دون الإشارة إلى أصل الاستناد.
ومع ذلك وللحق تحقق الشركة المنتجة عبر أعمالها نجاحا وجماهيرية واسعة، كما حصل مؤخرا مع مسلسلها “بطلوع الروح” الذي أسندت الشركة مهمة إخراجه لكاملة أبو ذكري التي باتت أعمالها معروفة ومتابعه بشكل كبير لدى الجمهور العربي وليس فقط المصري، نذكر منها على سبيل المثال تجربتها في رمضان 2021 مع المسلسل الكوميدي “100 وش” الذي لاقى جماهيرية كبيرة، وقبله بأعوام مع مسلسل “واحة الغروب” المستمد من رواية بنفس العنوان، والذي اعتبر تحفة فنية وغيره من الأعمال، وبالتالي وجودها على رأس العمل يضمن جزءا كبيرا من نجاحه.
ومسلسل “بطلوع الروح” الذي لعبت دور بطولته الفنانة الموهوبة منة شلبي إلى جانب كل من إلهام شاهين، أحمد السعدني، محمد حاتم، عادل كرم، ناندا محمد، ديامون عبود، دارين الجندي، تدور أحداثه في مدينة الرقة التي تقع شمال سوريا، والتي كانت في يوم من الأيام العاصمة الرديفة لبغداد لدى أغلب الخلفاء العباسيين حتى دمرها المغول، وتعيش منذ سنوات مأساة أخرى بعد أن احتلتها التنظيمات الإرهابية لإقامة دولة الخلافة فيها، وباتت تجند سواء بالترهيب أو الترغيب حلفاء لها من كل بقاع الأرض.
بينما مسلسل “الخليفة” الذي كتبه كل من فيلهلم بيمان ونيكولاس روكسترم وأخرجه غوران كيبتانوفيتش، فإن أحداثه لا تقتصر فقط على مدينة الرقة التي تدور فيها الأحداث، بل أيضا وبشكل مواز تجري الأحداث في مدينة ستوكهولم السويدية، التي يتم فيها تجنيد شبان وشابات مسلمات للعمل مع تنظيم الدولة الإسلامية، وهذا الخط الدرامي أعتقد أنه أغنى العمل وأعطاه مبرراً وطابعاً إنسانياً ونفسياً أقوى.
مقارنة العملين
إن المقارنة ما بين العملين في بعض مفاصله الرئيسية، تؤكد على وجود التناص ليس فقط في المضمون وإنما في الشكل والبناء، ففي مسلسل “الخليفة” برفين (سويدية من أصول تركية) سيدة قوية متزوجة من حسام (سويدي سوري) ولديها طفلة في شهورها الأولى، وهي الآن في الرقة، لا نعرف هل دخلتها برغبة منها أو بضغط وحيلة من زوجها الضعيف الذي يخاف ليس فقط من حمل السلاح وإنما حتى من رؤية الدم.
تحاول برفين بعد ما شاهدته وعايشته من بطش وعنف أن تنجو بنفسها وبطفلتها لتعود إلى السويد، فتتواصل مع الشرطة السويدية عبر هاتف جوال – سيصلها بمحض الصدفة- لتؤمّن طريقة لخروجها من الرقة، لكن العملية ليست بتلك السهولة وتحتاج إلى مقابل، فالشرطية التي ستساعدها تريد معلومات عن ذلك التنظيم وعملياته الإرهابية المخطط لتنفيذها في السويد.
وفي الوقت عينه نتابع حالة أب يكتشف التحاق ابنتيه بتنظيم الدولة الإسلامية فيحاول بمساعدة الشرطة التركية اللحاق بهما، لكنه سيتوقف عند النقطة الحدودية التي تفصل تركيا عن سوريا، هذا المشهد سيتكرر بشكل شبه حرفي مع شخصية “روح” السيدة المصرية القوية التي أجبرت على مرافقة زوجها إلى الرقة بعد أن خطف ابنها نقطة ضعفها، وحين تحاول الشرطة التركية اللحاق بهما، تُجبر على التوقف عند الخط الفاصل ما بين الحدود التركية والسورية، لتدخل روح الرقة وتبدأ رحلة معاناتها، كما أن زوجها أكرم أيضا رقيق القلب وضعيف لن يقوى على حمل السلاح ولا حتى على رؤية الموت.
في قصتي العمل، هناك رجل من التنظيم سبق وأن أحب برفين في العمل الأصلي وروح في العمل المقتبس، وكان هدفه من جرها وزوجها إلى الرقة ليس الجهاد بل الوصول إليها والنيل منها، لكنها ستتخلص منه سواء بقتله في العمل الأول أو بقدر إلهي لحظي اختلقه الكاتب في النسخة العربية، ليتجنب مشهد الاغتصاب الوارد في النسخة السويدية.
لم يقتصر التناص على المضمون فقط، بل قاربه حتى في الشكل، ففي “الخليفة” وبعد جهد كبير وأحداث درامية كثيرة تتمكن برفين من الوصول إلى السيارة التي تنتظرها والتي ستتعرف عليها عبر كشّاف الضوء، وبعد أن تستقلها لتهرب يحصل أمر مفاجئ يمنعها من المغادرة فتعود أدراجها إلى الرقة.
سيناريوهات الآخرين
المقارنة ما بين العملين الدراميين تؤكد على وجود التناص ليس فقط في المضمون وإنما كذلك في الشكل والبناء
كذلك في مسلسل “بطلوع الروح” تتوصل روح أيضا لهاتف جوال، فتجري اتصالا بوالدها، ليحاول الأخير إيجاد مهربين لمساعدتها في الخروج من الرقة، وبنفس التكنيك تتعرف روح على السيارة التي ستقلها من الرقة، لكن الرحلة لن تكتمل أيضاً بسبب أمر مفاجئ فتعود أدراجها للرقة، مع الفارق في التفصيل الدرامي للحدث اللاحق.
رغم التناص الواضح بين العملين تبقى النسخة السويدية من حيث السيناريو أكثر نضجا وواقعية، لأنها لا تكتفي بالتركيز على الجزء الخاص بمدينة الرقة، بل تتجاوزه للكشف عن عمليات التجنيد التي طالما سأل عنها الجمهور وطالب بمعرفة خلفيات وتوضيحات لها.
وتبدو النسخة السويدية أكثر سوداوية وواقعيه حين تنهي حياة برفين بالموت بعد مشقة مغادرة الرقة مباشرة، في حين تحاول النسخة العربية أن تكون أكثر قوة وإيجابية فتسمح لروح بتجاوز الرقة والحصول على حريتها، إلا أنها بالمقابل تفاجئنا بحل درامي غير متوقع أو حتى مقبول حين جعلت من أكرم زوج روح وعلى حين غرة يصحو من غيبوبته فيحمل السلاح ويبطش بالدواعش.
وموضوع التناص أو الاقتباس ليس جديدا حتى على الدراما الأجنبية سواء التلفزيونية أو السينمائية، فمن شاهد الفيلم الأميريكي “ليس بدون ابنتي” والفيلم الإيطالي “قانون الصحراء” اللذان يدوران حول اختطاف زوجة من قبل زوجها ومحاولة الأخيرة العودة إلى بلادها، سيلاحظ أيضا القواسم المشتركة بين العملين، لكن الرهان يبقى في قدرة منتجي أي عمل على جعله أصيلا نابعا من بيئته، وهو فعلا ما حققته كاملة أبو ذكري في إدارتها للعمل والممثلين بشكل شد جمهور الشارع العربي، ويبقى السؤال الملح والمحير، لماذا نلجأ نحن العرب حين نكتب عن واقعنا لسيناريوهات يكتبها الآخرون عنا؟