لماذا يرفض التونسيون الهزيمة في الرياضة

الخيبة أظهرت أيضا أن مواقع التواصل الاجتماعي بعنفها اللفظي والسقوط الأخلاقي للبعض يمكن أن تتحول أيضا إلى ساحات إعدام افتراضية لكل من أدين من قبل الجمهور الغاضب بالضلوع في الهزيمة.
الخميس 2024/02/01
للحلم التونسي ما يبرره

أقصيت تونس من مباريات كأس أفريقيا للأمم لكرة القدم منذ الدور الأول. لم يكن ذلك أمرا لافتا في حد ذاته. ولم يكن مفاجئا لأحد من المهتمين بالرياضة وخبرائها الكثر.

ما كان لافتا لم يكن الإخفاق الرياضي في حد ذاته بل درجة المرارة والغضب التي تلت الإقصاء، إذ صب العديد من التونسيين جام غضبهم على الفريق والمسؤولين عنه.

لكن البعض الآخر قال إن الفشل الرياضي أمر طبيعي ووصفوه بالانعكاس الطبيعي لفشل البلاد على مختلف الأصعدة الأخرى. غير أن هذه الخلاصة المتشائمة رفضها الكثيرون.

الأغلبية مازالت غير مستعدة للقبول بأن تسقط المنافسات الرياضية أيضا في دوامة الفشل. بل هي تبقى المتنفس الذي لا يريد أحد التخلي عنه.

◙ خيبة كأس أفريقيا أظهرت أن التشنج الذي يرافق الإحباط والهزيمة قد يهدد هذه الوشائج ويشتت الصفوف أو يكاد، خاصة لمّا تتوجه الأغلبية إلى البحث الجماعي عن كبش الفداء

وليس من محض الصدفة في هذا الصدد أن أسبغ التونسيون على لاعبة التنس التونسية أنس جابر لقب “وزيرة السعادة”، خاصة منذ تفاقمت مصاعبهم المعيشية وضاقت الآفاق أمامهم بفعل الأزمات.

ومن المفارقات أن تشبث التونسيين بالانتصار في المنافسات الرياضية يبدو وكأنما هو يزيد كلما ازدادت المؤشرات على تفاقم المصاعب التي تواجهها بلادهم أو تراجع ترتيبها حسب المقاييس الدولية المعتمدة لتقييم أداء الدول على صعيد التطور والنماء.

وكل من يتابع نقاشات التونسيين على منصات التواصل الاجتماعي يلاحظ أن التصنيفات الرياضية هي إلى حد كبير أكثر جذبا لاهتمام الجمهور من التصنيفات الاقتصادية. فمتابعة ترتيب الفريق الوطني التونسي لكرة لقدم على أساس التقييم الشهري للاتحاد الدولي الفيفا أو ترتيب البطلة أنس جابر بين لاعبات التنس في العالم هي عادةٌ تلقى رواجا كبيرا من متابعة ترتيب تونس مثلا في تقرير منتدى دافوس للتنافسية الاقتصادية ووكالات التصنيف الائتماني.

لا غرابة في ذلك. فاحتمالات الخيبة من المفروض أن تكون أقل عند متابعة نتائج مشاركات الرياضيين التونسيين في الخارج. الكل يحاول بكل السبل اقتناص لحظات من “السعادة”.

هناك اعتبار آخر مهم: مازال معظم التونسيين لا يقبلون بأن تصنَّف بلادُهم في ذيل الترتيب في أيّ شيء، حتى وإن تعودوا على سماع الأخبار التي تتحدث عن “الأزمة التونسية” و”الملف التونسي” وغيرها من العبارات التي توحي بأن بلادهم لم تخرج بعد من النفق.

تعوّدوا أو هم يكادون على تدهور الأوضاع في كل المجالات إلا في المنافسات الرياضية. تبقى التوقعات وإن كانت ممزوجة أحيانا بالأوهام والتهيؤات غير الواقعية في هذه المنافسات مرآة للمكانة التي مازالوا يرون أن بلادهم تستحقها بين الدول.

يرى علماء الاجتماع أن المسابقات الرياضية بين الشعوب عوّضت الحروب منذ العهود الغابرة للإنسانية، ولكنها لم تمح غريزة المنافسة والتفوق.

لذا ما كان محبطا للكثير من التونسيين عند فشل فريق كرة القدم في المسابقة الرياضية الأفريقية ليس فقط النتائج الهزيلة التي تحققت وإنما أيضا خروج بلادهم من مباريات كأس أفريقيا وفي رصيدها أسوأ رتبة في مجموعتها وأقل عدد من النقاط بين طائفة من الدول التي تعد الأضعف بين المجموعات المتبارية.

◙ الأغلبية مازالت غير مستعدة للقبول بأن تسقط المنافسات الرياضية أيضا في دوامة الفشل. بل هي تبقى المتنفس الذي لا يريد أحد التخلي عنه

لكنه مهما كانت درجة تعلق التونسيين بالفوز في المحافل الرياضية فإن أداء الرياضيين يتأثر ليس فقط بموهبتهم وإصرارهم على الانتصار بل أيضا بوضع البنية التحتية وسائر الإمكانيات المادية المتاحة لهم، من ملاعب ومسابح ومضامير ركض وأرضيات لعب. وهذه البنية التحتية رهينة الموازنات وطرق تصرف المسؤولين وفهمهم لأهمية الرهان.

 في تونس خلال السنوات المتعثرة التي تلت 2011 أدى ضعف الإمكانيات واضطراب الحوكمة إلى تآكل البنية التحتية. ورغم الجهود المبذولة لتدارك الوضع منذئذ تبقى التجهيزات المتوفرة دون المأمول.

ويظل تميز الرياضيين والرياضيات في الحلبات الدولية في معظم الأحيان استثناء لا يمكن دوما المراهنة عليه.

رغم ذلك يصرّ معظم التونسيين على أن يروا البطولات تتكرر وأن يصعد رياضيوهم إلى منصات التتويج كل مرة، حتى وإن غابت الإمكانيات وتبعثرت الاستعدادات. وهم بذلك يضعون على عاتق البطل المتميز عبئا أكبر من أن يتحمله أيّ رياضي لوحده.

يجد الرياضي التونسي المتألق في الخارج  نفسه في نهاية المطاف ملزما بالنجاح “لإسعاد الآخرين” أو كما قال أحد المعلقين “مسكين من يصبح رمزا للفوز في بلاد ينقصها الفوز”.

في ظل الأزمات هل يجب اعتبار الرياضة مسألة ثانوية ضمن أولويات أيّ دولة؟ ليس بالضرورة.

وحتى في زمن البحث عن الخبز والسكر والحليب في الأسواق مازال التونسي مشدودا إلى المنافسات الرياضية. ولا زالت المباريات تخرج التونسيين من مكاتبهم وأماكن عملهم قبل الوقت، وتجعلهم يستيقظون فجرا لمتابعة المنافسات الرياضية.

كما تواصل الرياضة لعب دور أساسي في المجتمع يتجاوز النتائج الرياضية في حد ذاتها ويزدري المتعلقون بها بالمقولة التبسيطية القائلة بأن “الكرة أفيون الشعوب”.

ما زالت الرياضة تجمع التونسيين تحت لواء واحد وحول نشيد وطني واحد، وذلك مهما كانت اختلافاتهم وانقساماتهم.

◙ تشبث التونسيين بالانتصار في المنافسات الرياضية يزيد كلما ازدادت المؤشرات على تفاقم المصاعب التي تواجهها بلادهم أو تراجع ترتيبها حسب المقاييس الدولية المعتمدة لتقييم أداء الدول على صعيد التطور والنماء

وهي في المنافسات القارية والعالمية في كرة القدم على وجه التحديد  تجمع كل التونسيين من داخل الوطن ومن المهجر دون تمييز، سواء كانوا من أفراد الفرق المشاركة أو ضمن الجماهير المصطفة على مدارج الملاعب.

وليس هناك في هذا الإطار من يبحث عمّا إذا كان اللاعب المشارك في المنتخب من مواليد تونس أو خارجها، أو إن كان أحد أفراد الفريق الوطني يتحدث لغة البلاد بطلاقة أم لا. وهذا ليس بالأمر الهين.

لكن خيبة كأس أفريقيا أظهرت كذلك أن التشنج الذي يرافق الإحباط والهزيمة قد يهدد هذه الوشائج ويشتت الصفوف أو يكاد، خاصة لمّا تتوجه الأغلبية إلى البحث الجماعي عن كبش الفداء.

وأظهرت الخيبة أيضا أن مواقع التواصل الاجتماعي بعنفها اللفظي والسقوط الأخلاقي للبعض يمكن أن تتحول أيضا إلى ساحات إعدام افتراضية لكل من أدين من قبل الجمهور الغاضب بالضلوع في الهزيمة.

مع ذلك فإن الاعتبار الأهم هو أن الخيبة التي رافقت الأداء الشاحب للفريق الوطني في كوت ديفوار أظهرت أيضا أن التونسي لم يطبّع بعدُ مع الهزيمة – ولو كانت في الرياضة – أو مع التصنيف المتدني لبلاده في أسفل الترتيب في أي مجال.

وفي ذلك مؤشر على صلابة الفخر بالانتماء ومرآة لقناعة التونسيين بأن بلادهم أهل لمصاف أفضل بين الأمم رغم ظروفها الحالية، وأن الفشل سواء في الرياضة أو غيرها من المجالات ليس قدرا محتوما وأن الحلم التونسي مازال هناك ما يبرره.

8