لماذا لا يقدم الشعراء اعترافاتهم حول ميلاد القصيدة

رغم وجود عدد من الكتابات التي سرد فيها الشعراء رحلتهم مع الشعر إلا أن الحديث عن تولّد المعاني ودوافع الكتابة قلما ينجذب الشعراء للخوض فيه. في كتابه “الشعر رفيقي” يقرّر الشاعر المصري أحمد عبدالمعطي حجازي أن يخوض غمار تلك المنطقة المنسية لدى الشعراء ليبدأ كتابه بـ”اعترافات حول المعنى” قائلًا “المعنى في الشعر ليس فطرة أو غريزة، بل هو ثمرة الكتابة وغايتها. وليست هناك غاية بلا قصد، هذا القصد له في الشعر طابع عاطفي انفعالي، بالإضافة إلى أنه متعلق بموضوع له أصوله وتداعياته وعلاقاته المتشابكة التي تستدعي الكتابة كما تستدعيها الكتابة أيضًا”.
ينطلق حجازي في سرد اعترافاته بخصوص الدوافع وراء عدد من قصائده، وبوضوح أكثر يتابع حجازي حديثه عن تولّد المعاني بقوله “الشاعر يبدأ غالبًا من القصد، ثم لا يلبث أن تسحبه تداعياته إلى المعنى أو المعاني التي طالما حبسها في قمقمه الخاص الذي هو لا وعيه، فإن هو قارب اللغة التي هي فضاء الجماعة المشترك انطلقت معانيه الحبيسة ترفرف في هذا الفضاء بالرغم منه”.
شيطان الشاعر
الشاعر المصري حسن طلب يرى أن مثل تلك الأفكار تنتمي لحقب قديمة كان فيها الناس يؤمنون بأن لكلّ شاعر شيطانا يلهمه من المفترض أن تكون انتهت بدءًا من المدارس الرمزية والبنيوية وغيرها؛ إذ أصبح مفهومًا أن الشعر يأتي من الاجتهاد والدأب، ولا يأتي إلا حينما يذهب إليه الشاعر ويحاول مرارًا أن يصل إليه وليس محض إلهام.
ويفسر طلب سعي كثير من الشعراء المعاصرين لنفي القصدية وراء قصائدهم وقولهم بأن القصيدة هي التي تكتبهم بأنه محاولة من البعض لإضفاء القدسية أو الفرادة على ما يكتبونه من شعر، لافتًا إلى أنه لا يفضّل أن يكتب عن تجربته الشعرية لأنه يحب أن يترك المسألة للنقاد ويتفرغ هو لما يكتبه من شعر فقط.
الشعر شرارة تومض في العقل، في أشد مناطقه عمقاً وظلمة، هكذا تبدأ استجابة لدمعة أو لموقف مخيف أو لكلمة جارحة أو لمشهد مثير أو لأغنية عذبة أو لذكرى مؤلمة. ويستطيع الشاعر المبدع أن يتلقف هذه الشرارة المباركة أو الملعونة أو الجريحة أو المعذبة في أي وقت ليشعل بها ذاكرته التي تشبه حطباً جاهزاً للاشتعال
شعر أجوف
الشاعر والناقد المغربي عزالدين بوركة يقول “من المستحيل الحديث عن القصدية في الشعر. إذ أن القصدية يترتب عليها سقوط في الكتابة الآلية والشعر الأجوف، حيث يتم الاعتماد على سبق إصرار، على فذلكات لغوية وترتيب الكلمات في متصافات (جمل) نسمّيها عنوة أبياتا. وفي نفس الوقت فالشعر ليس وحيا منزّلا ومنزّها. فإن قيل قديما إن البيت الأول يسقط من السماء والأبيات الأخرى صناعة الشاعر، قد يكون لهذا الكلام شيء من الصواب رغم أن زمن الوحي قد ولّى وانقضى. فلا وحي في الشعر وإنما هو موهبة تكتسب بفعل التأثر به، منذ الطفولة والاحتكاك الأول بالنصوص الأولى.. فما يصقل هذه الموهبة إلا الممارسة بالقراءة والكتابة. أما البيت الأول فلا يسقط من السماء بل ينبع من الموهبة، من القدرة المكتسبة على تكوين الصورة الشعرية عبر الشرارة الأولى المتولدة من فعل الدهشة المتولدة بالتأمل أو الاحتكاك بأمر أو موضوع أو فكرة ما”.
يتابع “لا يُكتب الشعر عن سبق الإصرار والترصد والترقب.. الشعر إنْ يعمد إلى السرد لوضع وحدة عضوية مبنية على رؤية ذاتية أو وضع سياق تاريخي أو حكي، لكن السرد الشعري هو منقطع غير مندرج داخل أيّ خطيّة أو غيرها، فالشعر يتهكم ويمدح ويذم ويسخر ويمدح ويحكي لكن عبر الصورة الشعرية التي تبتغي موهبة ذاتية. أما القصدية الوحيدة في القصيدة هي تلك الرعشة الأولى التي تنادي إلى الشعر، فيصير الشعر نداء وليس قصدا. وما إن يستجيب الشاعر إلى الرعشة حتى يلج صنعته وما صقله من موهبة وما راكمه من قراءة، حيث يعمد إلى تركيب جمله الشعرية داخل قالب من الصور والتعابير غير مألوفة أو بسيطة وعميقة الآن نفسه”.
القصيدة وإن تعرف وحدة عضوية إلا أنه لا خطّ معينا لها، إنها منقطة وعائمة وسحابية يصعب الإمساك بها والجري خلفها، فهي تسابق الريح وتطفو فوق الماء وتطير في السماء. لهذا نجد بعض الروائيين اتجهوا لهذه الكتابة في رواياتهم، للتوفيق بين ما هو شعري وما هو روائي في تداخل سردي يجمع بينهما. لهذا في رأينا يصعب أن يتحدث الشاعر عن كيفية بناء قصيدته، ولا يمنعنا القول إن هناك بعض النصوص الشعرية التي يكون لها دوافع واقعية أو من الذاكرة أو من الذات وجراحاتها والعقد النفسية ومن أمور أخرى إلا أنها تبقى غير قصدية لأن عفوية الذاكرة ودهشة اللحظة هي ما تولّدها.
ذاكرة الشاعر
الشاعر العراقي أديب كمال الدين يرى أن الشعر هو الذي يكتب شاعره وليس العكس. بمعنى أنّ الشاعر الحقيقي لا الشاعر المزيَّف يستطيع أن يقرر أن يكتب قصيدة حقيقية مبدعة متميزة بناءً على قرار عقلي. فكتابة الشعر هي تجربة فنية من نوع خاص يشترك فيها الوعي واللاوعي بطريقة معقّدة وغامضة، وهي تختلف كلياً عن كتابة الرواية التي ينبغي التخطيط لعمارتها الروائية وتحضير شخصياتها ورسم ملامحها قبل الشروع بالكتابة.
|
ويستطرد كما الدين قائلا “الشعر شرارة تومض في العقل، في أشدّ مناطقه عمقاً وظلمةً، هكذا تبدأ استجابةً لدمعة أو لموقف مخيف أو لكلمة جارحة أو لمشهد مثير أو لأغنية عذبة أو لذكرى مؤلمة. ويستطيع الشاعر المبدع أن يتلقّف هذه الشرارة المباركة أو الملعونة أو الجريحة أو المعذَّبة في أيّ وقت ليشعل بها ذاكرته التي تشبه حطباً جاهزاً للاشتعال فتنثال عنده الصور والكلمات انثيالا. إذن ما مِن إعداد مسبق للقصيدة ولا لتفاصيلها ولا لتوقيتها”.
هذا يحدث مع كتابة القصيدة بشكل عام لكن قد يحدث شيء من الإعداد مع كتابة الملحمة الشعرية أو مع المجموعة الشعرية الكبيرة ذات الموضوعة الواحدة. وهنا يحتاج الشاعر إلى أن يديم شرارة الشعر لوقت طويل ومتكرر ليستمر في الكتابة المتواصلة حتى ينجز المراد أو المطلوب، ذلك يحدث لأن الملحمة الشعرية هي عمل كتابي طويل ومعقّد ويحتاج إلى بُنية شعرية من نوع خاص.
طعام ممضوغ
الشاعر والناقد المصري يوسف نوفل يوضح أن الشاعر يسعى دائمًا إلى إخفاء ما يتعلّق بقصيدته كي يترك المجال كاملًا للقارئ ليستنتج ما وراء النص ويشترك في النص دون أن يقدم وصاية على أفكاره، فالحديث عن القصيدة يكون كتقديم “طعام ممضوع”.
ويلفت نوفل إلى أن الجزء الأكبر من جمال القصيدة يأتي من تأمل القارئ والناقد لها وفهمها بطرق متباينة دون أن يقدم الشاعر مقدمات تعريفية لها أو موضحة لدوافعها، فعملية الإبداع هي نتيجة تأثير الوعي واللاوعي على الشاعر؛ الوعي متمثلًا فيما أثّر على الشاعر من مواقف وأحداث أو غيره، واللاوعي متمثلًا فيما تختزنه ذاكرة الشاعر ويتداعى في خياله بشكل مسترسل وحرّ قد لا يخطّط له.
تشير الشاعرة السورية فرات إسبر إلى أنها لا تفكر بالنص قبل كتابته. فليس عندها هاجس انتقاء المواضيع لتكتب الشعر من خلالها، موضحة “الشعر قفز مع الخيال، تذهب حيث يذهب خيالك، قد نحاور الغيمة، والمطر والشارع والشجرة، نقف أمام التاريخ والخلق والأسطورة والطبيعة، الطبيعة التي أعتبرها أعظم الشاعرات في هذا العالم، لا أحد يجيد كتابة الشعر مثل الطبيعة بكل ما فيها من جبال وسهول وبحار”.
تتابع فرات قائلة “الشعرُ يأتي نتيجة تأمّل وفهم لهذا العالم، يأتي من خلال التأمل العميق، من خلال الأسئلة الوجودية التي نطرحها على ذواتنا ووعينا، من خلال تأمّلنا لحركة الكون والعالم، كل هذا، هو ما يشكل لدينا عمق التجربة الشعرية ونضجها التي هي بدورها خلاصة التجربة الشعورية بالمعنى الصوفي والإنساني، بأن نذهب بعيداً وعميقاً في تأمل كل ما يدور حولنا في هذا العالم، من حياةٍ متجددة وعنيفة، سواء على مستوى الإنسان أو الطبيعة. لحظةٌ الكتابة، هي جني محاصيل بالنسبة إليّ، كزارعي الكروم يذهبون إليها وهي ناضجة تماما كما تأتي القصيدة، كطلق امرأة في مخاض أو كروم حان قطافها، هكذا أنا مع نصي”.
كاتبة من مصر