لماذا غالبا ما يخطئ الغرب بخصوص تونس؟

بعد أن انتزعت ثورة 2011 السلطة من الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، خدع العديد من المراقبين الغربيين أنفسهم بالاعتقاد بأن تونس تنجح في بناء الديمقراطية بينما يفشل جيرانها العرب. وكان هؤلاء هم أنفسهم الذين خُدعوا بشأن جودة إدارة البلاد الاقتصادية قبل 2011. واستغرقوا سنوات قبل إدراك أنهم أخطأوا في فهم تونس.
وقد تكون قسوة انتقادهم للرئيس قيس سعيد اليوم نتيجة خطئهم في فهم هذه الدولة الصغيرة مرتين منذ سنة 2000.
وفاجأ تحرك قيس سعيد لإقالة حكومته وتعليق عمل البرلمان في 2021 العديد من الدبلوماسيين الأجانب الذين فشلوا في قراءة الموقف. لكن الأمر لم يفاجئ التونسيين كثيرا، وتدفق الآلاف إلى شوارع المدينة للتعبير عن دعمهم لما اعتبروه عقابا لطبقة سياسية فاسدة لم تتميز بالكفاءة اللازمة.
وكانت الثورة المضادة في تونس أطول من تلك التي شهدها أيّ بلد عربي آخر، لكن من السابق لأوانه أن ننشر نعي الانتفاضات التي اجتاحت على موجتين (في 2011 و2019) معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
قد تكون قسوة انتقادهم للرئيس قيس سعيد اليوم نتيجة خطئهم في فهم هذه الدولة الصغيرة مرتين منذ سنة 2000
وتتواصل عملية ثورية طويلة المدى في المنطقة. وستخدع الحكومات الغربية، وخاصة في أوروبا، نفسها إذا اعتقدت أنها تستطيع الاعتماد على رجال أقوياء لضمان استقرار دول جنوب المتوسط. ويستمر التفاوت الاجتماعي والبطالة وعدم توفر الموارد البشرية في تعزيز إحباط اجتماعي هائل لن يتحمله الشباب. لكن زعماء الاتحاد الأوروبي مهووسون بموجات المهاجرين من الجنوب مع تصاعد الشعبوية التي تغذي هذا التركيز في أوروبا، بينما يواصلون إنكار عوامل الهجرة.
فلماذا فشل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في إدراك أن الثورة المضادة اندلعت مباشرة بعد “الثورتين” التونسية والمصرية التي أطاحت ببن علي ومبارك؟ لماذا لم يفهم هؤلاء أن السياسيين والقادة النقابيين في تونس يدفعون بالبلاد إلى طريق مسدود بعد فشلهم في البداية في إطلاق إصلاحات جريئة في إدارة أجهزتها الأمنية واقتصادها؟
تكمن الإجابة أولا في طبيعة الدولة ذاتها. فبحلول 2011، كان من الواضح للمراقبين المخضرمين فشل إطار السياسة الاقتصادية الليبرالية الذي يفضله الغرب (ما يسمى بإجماع واشنطن) في توفير المنافع الاقتصادية. وانتهى إجماع واشنطن، لكن هل سيراجع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي وصفات سياستهم التي يجب أن تستند إلى إعادة بناء الدولة، واعتماد الاستثمار العام لمحاربة الفساد الذي نتج عن رأسمالية المحسوبية؟
لم يؤمن معظم السياسيين الغربيين ومراكز الفكر بالثورات العربية. وكان هذا مفاجئا، حيث أظهرت تقارير التنمية البشرية العربية المتتالية لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2003 و2005 و2009) تضخم معدل البطالة في شمال أفريقيا وتراجع نسبة تكوين رأس المال الإجمالي إلى الناتج المحلي الإجمالي خلال ربع القرن السابق. ثم قالت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستين لاغارد في 2011 “اسمحوا لي أن أكون صريحة، لم نكن نولي اهتماما كافيا لكيفية تقاسم ثمار النمو الاقتصادي”.
فهم بعض المراقبين الأمر بشكل صحيح، وخاصة البروفيسور جلبير الأشقر الذي تبرز دراسته “راديكالية الانتفاضة العربية”، كما يصفها في كتابه “الشعب يريد”، لرفضها توجيه الضربات عند التشكيك في الليبرالية السائدة.
الثروة الاقتصادية في البلاد تخضع لرقابة صارمة يديرها عدد قليل من العائلات التي يعزز قبضتها نظام نقابي يسمح لها بالسيطرة الفعلية على الدولة
ويشير استخدام عبارة “ثورة الياسمين” إلى سوء فهم، حيث لم تحدث ثورة في تونس في يناير 2011. بل أجبرت ثورة عنيفة الأجهزة الحاكمة على النأي بنفسها عن رئيس الدولة وأجبرته على الخروج للحفاظ على امتيازاتها.
وعُرض على المقربين السياسيين للأحزاب السياسية الرئيسية في تونس وظائف في الخدمة المدنية المتضخمة التي غالبا ما كانت موجودة فقط على الورق، وتلقوا أجورهم مقابلها. وكانت النتيجة تدمير كفاءة الخدمة المدنية وزيادة فاتورة الأجور بشكل كبير. وأدى ارتفاع ديون البلاد إلى إقصاء الاستثمار العام في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية. وتتابع الرؤساء والحكومات، وكان كل واحد يقترض الأموال من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وبنك الاستثمار الأوروبي.
وواصل صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي التبشير بالليبرالية وتظاهرا بتصديق تنفيذ الإصلاحات. وانخفض في الأثناء الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي. وشهدت القطاعات الرئيسية مثل الفوسفات والأسمدة انهيار إنتاجها بينما تراجعت السياحة بسبب الإرهاب ووباء كوفيد – 19. واستمر استغلال المناطق الداخلية التي انطلقت منها كل الثورات في تونس رغم أنها توفر معظم المياه والقمح والفوسفات التي تحتاجها البلاد، واستفادت في المقابل المنطقة الساحلية الأكثر ثراء.
وأقنع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة نفسيهما بأن الانتخابات الحرة والنزيهة تشير إلى مستقبل مشرق. لكن الشباب التونسي لم يقتنع، وصوّت عدد أقل من الناس في الانتخابات المتتالية، حتى أن الكثيرين لم يكلفوا أنفسهم عناء التسجيل.
ولم تُظهر الحركات الإسلامية أبدا أيّ اهتمام بالتصدي لتحديات الاقتصاد الحديث، ولم يثبت حزب النهضة كونه استثناء لذلك.
وأصبح الوهم سمة واسعة الانتشار بين العديد من المواقف الغربية كما كان الحال قبل 2011. وقبل ذلك التاريخ، كان البنك الدولي والمراقبون الغربيون يثنون على أداء البلاد الاقتصادي. وأشادوا بنجاح البلاد كديمقراطية بعد سقوط نظام بن علي. ومن الأسهل هنا أن نفهم سبب فشل القادة الأوروبيين في التفكير إستراتيجيا في تونس.
وغالبا ما يعرض المحللون الغربيون لشمال أفريقيا والشرق الأوسط رؤيتهم الخاصة للعالم على البلدان التي يختلف تاريخها. وكانت الأدوات الدلالية للفكر الاقتصادي الحديث نتيجة لإعادة التفكير في الدولة وعلاقاتها الخارجية التي تعود إلى القرن الثامن عشر.
ويساهم هذا في تفسير خطأ الغرب في فهم منطق سلوك دول الشرق الأوسط الحديثة. فنادرا ما يركز قادتها على زيادة ثروة البلاد ولكن على البقاء في السلطة، بطرق تشمل التحكم في الوافدين الجدد الذين ينضمون إلى النخبة.
والتزم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي منذ الثمانينات بمجموعة من المبادئ الأيديولوجية التي أصبحت تُعرف باسم إجماع واشنطن الذي يحث على تقليص نفوذ الدولة لإفساح المجال أمام الاستثمار الخاص. وكانت هذه الليبرالية الجديدة تواجه فشلا في تونس بالفعل بحلول مطلع القرن الحالي، لكن ذلك لم يمنع البنك الدولي من تقديم البلاد كنموذج للحكم الاقتصادي الجيد الذي يجب اتّباعه في أفريقيا والشرق الأوسط.
استخدام عبارة "ثورة الياسمين" يشير إلى سوء فهم، حيث لم تحدث ثورة في تونس في يناير 2011. بل أجبرت ثورة عنيفة الأجهزة الحاكمة على النأي بنفسها عن رئيس الدولة وأجبرته على الخروج للحفاظ على امتيازاتها
ورغم كل الحقوق التي تمنحها تونس للمرأة ومواقفها المتسامحة تجاه الأجانب، تخضع الثروة الاقتصادية في البلاد لرقابة صارمة يديرها عدد قليل من العائلات التي يعزز قبضتها نظام نقابي يسمح لها بالسيطرة الفعلية على الدولة. ولم يقدم الاتحاد العام التونسي للشغل أفكارا جديدة ولم يساعد في إنشاء حزب يساري كبير بعد 2011، لكنه كان سعيدا برؤية الأحزاب السياسية تضخم عدد العمال المستفيدين من المرتبات الحكومية، مما أدى إلى إفلاس البلاد.
هل سيغير الغرب خطته النيوليبرالية؟
تساءل الأشقر في الطبعة الأولى من كتابه عن سبب امتناع الخبراء الغربيين حتى على اقتراح إعادة توجيه البترودولار العربي على نطاق واسع نحو استثمارات تخلق فرص عمل في المنطقة، على غرار خطة مارشال؟ لا يمكن للمؤسسات الدولية أن تذهب إلى حد “الإيحاء بأن تتوقف ممالك النفط عن استثمار رؤوس أموالها في الاقتصادات الغربية، ولاسيما في الولايات المتحدة، وتحويلها إلى الحكومات العربية بدلا من ذلك، مثل المساعدة التي قدمتها الولايات المتحدة لحلفائها في أوروبا من 1948 إلى 1951”. يبقى هذا تحولا غير متوقع في الأحداث، حيث ستفوّت البنوك الغربية فرصا ضخمة لكسب المال، وكان لممالك الخليج تأثير كبير في باريس ولندن وواشنطن.
وتتواصل هجرة رأس المال من المنطقة إلى ملاذ البنوك الغربية. كما أن النخب الشابة تفرّ الآن أيضا لصالح الخليج وكندا وفرنسا وجيرانها. وفي شمال أفريقيا، تُبرز “الحرب الباردة” بين الجزائر والمغرب سبب تدني تدفقات التجارة والاستثمار بين البلدان الثلاثة. لكن يمكن أن يولد النفط والغاز والكبريت والأمونيا في الجزائر مع الفوسفات المغربي العديد من فرص العمل والصادرات الكبيرة. وكانت التوترات بين البلدين مناسبة للغرب لعقود، لكن ضغط المهاجرين الجدد في أوروبا يغذي الأحزاب الشعبوية وخطر الاضطرابات المحلية في دول مثل إيطاليا وفرنسا.
ومن المفارقات الأخرى في السيناريو النيوليبرالي أن الصين وتركيا تعملان على زيادة علاقاتهما التجارية مع شمال أفريقيا (بعد إيطاليا، تعد الصين ثاني أهم مصدر إلى تونس، وتحتل تركيا المرتبة الرابعة) ولكن ليس استثماراتهما. ويواصل رأس المال الخاص الغربي لعب دور رئيسي في جميع بلدان شمال أفريقيا الثلاث. ويكتشف الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة أن قادة شمال أفريقيا (كأي قادة في جنوب الكرة الأرضية) لا يشاركونهم قراءتهم للحرب في أوكرانيا. ويلاحظ القادة أن الغرب ينظر إلى مشاكله على أنها مشاكل العالم، لكنهم لا يهتمون.
وكلما سارعت أوروبا للاستيقاظ على حقيقة أن البلدان الواقعة خارج شواطئها الجنوبية تستحق سياسة طموحة، وعملية برشلونة جديدة وأكثر جرأة، كلما كان ذلك أفضل. ومن الأنسب أن تسارع في إدراك أن النزعة الإسلامية ليست النزعة الطبيعية للمنطقة، كما توقع الكثيرون (وخاصة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بعد 2011) والتخلي عن استشراقها الصغير. ويمثل الانتقال من الدولة النيوباتريمونيالية تحديا تاريخيا لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأوروبا. ويشير رد فعل الولايات المتحدة تجاه تجاهل قيس سعيد لقواعد الديمقراطية الأساسية إلى أن المواقف الغربية لم تتغير. وحتى تقبل المفوضية الأوروبية أن التغيير الشامل للدولة الباتريمونيالية أو النيوباتريمونيالية هو شرط أساسي لتحقيق نمو أسرع وإدماج اجتماعي أوسع وبالتالي يصبح استقرارا طويل الأمد في تونس ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ستضطر إلى القبول بأن المواقف التي تردّدها باستمرار عبر وسائل الإعلام والتي تهدف إلى “تطوير” سياساتها تجاه الجوار تبدو وكأنها محاولة لإرضاء الجماهير.