لماذا تمثل نهاية رئيسي المفاجئة ضربة موجعة لخامنئي

يربك فقدان الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي المفاجئُ أجندات مرشد الثورة الإسلامية في إيران آية الله علي خامنئي الذي يُتداول على نطاق واسع أنه كان يعده لخلافته. ويفتح رحيل رئيسي الباب أمام صراع داخل حزام المرشد ما سيلقي بضبابية على المشهد السياسي المقبل.
طهران - يمثل مقتل الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي في تحطم مروحية بمنطقة جبلية وعرة قرب مدينة جلفا على الحدود مع أذربيجان، ضربة إستراتيجية موجعة لمرشد الثورة الإسلامية علي خامنئي الذي يدرك أنه ليس من السهل تعويض رئيسي من حيث ولائه منقطع النظير لنظام الولي الفقيه واستعداده الدائم لتحقيق أهداف الثورة الإسلامية.
وانضم رئيسي في العشرين من عمره إلى جهاز القضاء بصفة محقق عدلي، وبعد عام واحد أصبح المدعي العام في محكمة الثورة في مدينة کرج، وتولى أيضا مسؤولية مكتب المدعي العام في همدان.
واستمر في تولي هاتين المسؤوليتين بعض الوقت حتى تم تعيينه مدعيا عاماً لمحافظة همدان إلى حين انتقاله إلى طهران ليكون نائب رئيس مجلس خبراء النظام، وهناك تم تكليفه رسميا من قبل الإمام الخميني ضمن فريق ما سُمي آنذاك بلجنة الموت، والذي كان يضم أربعة قضاة، بتنفيذ أكبر مجزرة في صفوف المعارضة، حيث تم إعدام ما لا يقل عن 30 ألف معارض سياسي من عناصر الحزب الشيوعي المعروف بحزب تودة وجماعة مجاهدي خلق.
وبعد رحيل الخميني، ومع بداية تولي خامنئي منصب الولي الفقيه، تم اختيار رئيسي لمنصب المدعي العام للثورة، ليتحول بذلك إلى سيف النظام الممتد على رقاب المعارضين مهما كانت توجهاتهم الفكرية والعقائدية والسياسية حتى لو كانوا من داخل المنظومة ذاتها.
منذ دراسته الجامعية برز رئيسي كطالب يناضل في سبيل تعميم فكر الخميني الذي كان يخاطب الإيرانيين من منفاه الاختياري في باريس
وفي العام 1994 تم تعيينه رئيسا لمنظمة التفتيش العام للبلاد لمدة عشر سنوات.
وخلال أكثر من ثلاثة عقود كان رئيسي عين خامنئي التي يرى من خلالها كل ما يدور حوله، ويده التي يبطش بها، وهو ما يعني مستوى الثقة التي كان يحظى بها لديه، ويكشف حجم الخسارة التي لحقت بالولي الفقيه نتيجة الرحيل المفاجئ للرئيس.
وولد إبراهيم رئيس الساداتي المعروف باسم إبراهيم رئيسي في 14 ديسمبر 1960 في حي نوغان بمدينة مشهد، التي تقع في أقاصي إقليم خراسان بالقرب من مدينة طوس القديمة، وتعتبر ثانية كبرى مدن البلاد بعد طهران، ونما وترعرع في أسرة متدينة يرجع نسبها إلى السادات الحسينيين، وقد كان والده وجدّه لوالدته من علماء المدينة البارزين، بما ساعده على التفوق في دراسته الدينية، حيث التحق بالحوزة العلمية بعد إتمام دراسته الابتدائية في مدرسة جوادية بمشهد، وبعد أن أتم مرحلة المقدمات توجه إلى مدينة قم وهو في الخامسة عشرة من عمره، وهناك تتلمذ على أيدي علماء كبار كآيات الله علي مشكيني ونوري الهمداني وفاضل لنكراني. كما حضر أبحاث الخارج في الفقه والأصول عند آية الله علي خامنئي، وآية الله مجتبى الطهراني وآية الله المرعشي النجفي.
وبعد إنهاء دراسته الأكاديمية في جامعة الشهيد مطهري اتجه إلى نيل درجة الماجستير في الحقوق الدولية، ودرجة الدكتوراه في فرع “الفقه والمبادئ، قسم الحقوق الخاصة”. وانطلق في إلقاء الدروس في الوسطين الحوزوي والجامعي.
ومنذ دراسته الجامعية برز رئيسي كطالب يناضل في سبيل تعميم فكر الخميني الذي كان يخاطب الإيرانيين من منفاه الاختياري في باريس.
وكان متحمسا لمشروع الثورة، ومتبنيا بكل قوة لمبدأ قيام الدولة الدينية كما نادى بها الملالي ويقول عن ذلك “خلال انتفاضة يناير 1977، عندما بدأت المظاهرات في قم رسميا، شاركت فيها جميعا. كنت صغيرا وكانت روح الشباب عندي، وكنت أشارك في كل الاجتماعات التي تقام في بيوت الزعماء والعلماء، بعد شتم الإمام في صحيفة من قبل شخص يدعى مطلق رشيدي، اتسعت التحركات وحصل إطلاق نار في منزل آية الله حسين نوري واستشهد بعض الأشخاص. وفي كل هذه اللقاءات أتيحت لي فرصة التواجد في بيوت العلماء”.
وتعرض رئيسي للاعتقال، ويقول في وصفه للحادثة “قبل الثورة تم اعتقالي مرة في قم، وكان ذلك عندما كنا ذاهبين إلى يزد مع اثنين من الطلاب عندما تم القبض علينا على السكة الحديد. وكان يظن أن إعلانات الإمام كانت معنا، طبعاً كانت مع بعض الأصدقاء، لكنهم أدخلوها بطريقة لا يلاحظها أحد”.
وكانت لرئيسي لقاءات عدة مع الخميني، ومع كبار الملالي، لكن من الواضح أن رابطا قويا كان يشده إلى خامنئي.
ويقول في جزء من مذكراته “كان حضرة الإمام دائمًا قدوة وشخصية مركزية، لكني أتذكر قبل عامين من الثورة عندما كنا نجلس ونتحدث مع الطلاب، قالوا إذا ذهب الشاه من يمكن أن يحكم البلاد؟”، فقلت إن السيد خامنئي إمام مسجد الكرامة هو أفضل شخص للرئاسة. وقتها سخروا مني قائلين ما الذي تتحدث عنه؟ لكن الناس استطاعوا رؤية قوة الإرادة في جبهته. قلت إن لدينا علماء كثيرين في مشهد، لكن لم يكن لدينا عالم يجمع الشباب حوله، طلابا وطالبات. ولم تكن دروسه في التفسير مناسبة حقا كالسيد خامنئي”.
وكانت علاقة رئيسي الوطيدة مع خامنئي طريقا نحو المسؤوليات المهمة التي تحتاج إلى شخصيات تحظى بالثقة وتنطلق من ثوابت ثورية ودينية غير قابلة للانزياح عنها.
وفي العام 2004 شغل رئيسي منصب النائب الأول لرئيس السلطة القضائية في الدورة الثانية لرئاسة هاشمي شاهرودي، والدورة الأولى من رئاسة صادق لاريجاني، وفي عام 2012 تم تعيينه إلى جانب منصبه ذاك، وبقرار مباشر من خامنئي، في منصب المدعي العام لمحكمة خاصة برجال الدين.
ومن ثم تولى منصب المدعي العام للبلاد في عام 2014، وفي العام التالي أسند إليه المرشد العام منصبا يحتاج إلى شخصية استثنائية في هرم قيادة الثورة، وهو سادن الروضة الرضوية التي تعتبر أحد أقدم المراکز السياسية والاقتصادية على مستوى العالم حيث يعود تأسيسها إلى أكثر من 1200 عام مع ثروة هائلة تقدر في إيران وحدها بعشرات المليارات من الدولارات، ولديها استثمارات في جميع القطاعات الاقتصادية مثل الزراعة والصناعة الغذائية وصناعة الأدوية وصناعة السيارات ومشاريع البناء والمعادن والطاقة والتقنية المعلوماتية والإعلام، وهي تحصل على أرباح ضخمة مع إعفاء تام من دفع الضرائب.
ومثّل رئيسي دائما صورة القيادي المتشدد عقائديا، المرتبط بأجندات الطرف الأكثر تطرفا، محل ثقة المرشد العام الخميني ثم خامنئي، وكان مهيئا على الدوام للتقدم في سلم المسؤوليات، وفي المواقع الأكثر تأثيرا وأهمية وحساسية. في 7 مارس 2019 صدر عن مكتب المرشد العام قرار بتعيينه رئيسا للسلطة القضائية الإيرانية ليحل محل صادق لاريجاني الذي احتفظ بالمنصب لنحو عشرة أعوام.
وكان لرئيسي دور رئيسي في قمع الاحتجاجات الشعبية وخاصة تلك التي اندلعت في نوفمبر 2019 عقب فرض زيادة بنسبة 50 في المئة في أسعار البنزين، وشملت الاحتجاجات التظاهر وغلق الشوارع بالسيارات ومهاجمة بنوك ومنشآت حكومية، وسرعان ما تحولت إلى حراك شعبي للتنديد بممارسات النظـام.
وكان من المهم للمتشددين في النظام الحاكم أن يصل رئيسي إلى كرسي الرئاسة نظرا لحزمه في التصدي لكل من أو ما يمثل تهديدا للجمهورية الإسلامية، لذلك تم ترشيحه في فبراير 2017 من قبل مؤتمر الجبهة الشعبية لقوى الثورة الإسلامية وبدعم من جبهة ثبات الثورة الإسلامية.
وفي 6 أبريل أصدر رئيسي بيانا أعلن فيه ترشّحه رسميا للانتخابات مشيرا إلى أنها “مسؤولية دينية وثورية”.
وقال في البيان إن “الحل الرئيسي لمشكلاتنا هو تغيير جذري في الإدارة التنفيذية للبلاد” وتشكيل حكومة قادرة على “محاربة الفقر والفساد”.
وفي 14 أبريل 2017 قدم إبراهيم رئيسي إلى مقر لجنة الانتخابات بوزارة الداخلية، وسجل ترشيحه لخوض الانتخابات، وبعد شهر أعلن المرشح المحافظ محمد باقر قاليباف انسحابه من سباق الرئاسة لصالح رئيسي الذي خسر المنافسة أمام الرئيس المرشح لولاية ثانية حسن روحاني رغم حصوله على ما يقارب 16 مليون صوت في حملته، أي 38.30 في المئة من الأصوات.
وفي 15 مايو 2021 قدم إبراهيم رئيسي طلب الترشح للسباق الرئاسي مستندا إلى دعم مجلس تحالف قوى الثورة الإسلامية، وجبهة ثبات الثورة الإسلامية، ومجلس وحدة الأصوليين وتحالف الوحدة الوطنية، وهو ما ساعده على الفوز بمنصب الرئيس في مواجهة منافسيه الستة: سعيد جليلي ومحسن رضائي وعبدالناصر همتي وأمير حسين قاضي زاده وعلي رضا زاكاني ومحسن مهر علي زاده.
وقال مراقبون آنذاك إن مجلس صيانة الدستور عبّد الطريق أمام رئيسي للوصول إلى سدّة الرئاسة بعد أن أزاح كل منافسيه الحقيقيين من الانتخابات عبر رفض أهليتهم، ومنهم رئيس مجلس الشورى الإسلامي السابق علي لاريجاني والرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد الذي وصف الانتخابات بالمهندسة سلفا وأعلن عن مقاطعته لها مشاركة ودعما وتصويتا، وأشاروا إلى أن رئيسي كان يحظى بقرار الولي الفقيه إيصاله إلى سدة الحكم لذلك تم إقصاء كل من قد يكون منافسا جديا له والدفع بمنافسين هامشيين لتشكيل ديكور الاستحقاق في جمهورية الولي الفقيه.
وفي تلك الأثناء طالبت أنييس كالامار، الأمينة العامة لمنظمة العفو الدولية، بإخضاع إبراهيم رئيسي، الرئيس الإيراني المنتخب، لتحقيق جنائي بسبب أفعاله التي وصفتها بـ”الجرائم ضد الإنسانية”، وقالت “إن حقيقة وصول إبراهيم رئيسي إلى منصب الرئيس بدلا من أن يكون قيد التحقيق الجنائي لارتكابه جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك القتل والاختفاء القسري والتعذيب، هي مظهر رهيب لقاعدة الحصانة المطلقة في إيران”. وفي عام 2022 شهدت إيران انتفاضة شعبية انطلقت في 14 سبتمبر 2022 عقبَ مقتل الشابّة الإيرانيّة من أصل كردي مهسا أميني بعد تعرضها للضرب المبرح أثناء احتجازها واعتقالها من قِبل شرطة الأخلاق التابعة للحكومة الإيرانيّة، قوبلت بالقمع الرسمي الممنهج ما أدى إلى مقتل ما لا يقل عن 416 شخصا من بينهم 51 قاصرا دون سن الـ18، ولتكون تلك الاحتجاجات الأكثر دموية منذ احتجاجات 2019 – 2020 التي أسفرت عن مقتل أكثر من 1500 شخص.
وقد يكون لافتا أن رئيسي كان شريكا، من خلال مواقع مختلفة، في كل الاصطدامات التي عرفها نظام الملالي سواء مع المعارضة السياسية المنظمة أو مع الاحتجاجات الشعبية العفوية، حتى أنه شخصية من الصعب أن تتكرر سواء من حيث دوره الذي قام به منذ أكثر من أربعة عقود أو من حيث مصيره الذي يطرح الكثير من الأسئلة عن أسبابه وظروفه ونتائجه.
وبالتزامن مع ذلك يرى المتابعون للشأن الإيراني أن الرئيس الراحل كان نموذجا للمسؤول العقائدي المستعد دائما لتنفيذ أوامر قائده بكل حزم، وظهر دائما في صورة المدافع عن الثورة والنظام والجمهورية الإسلامية. ونظرا إلى ما كان يتميز به من علوم ومعارف شرعية ومن تجربة سياسية ثرية ومن عبور وظيفي على مختلف المواقع السيادية في الدولة، كان خامنئي يعده لخلافته في منصب مرشد الثورة، وكان يثق في قدرته على تحمل مسؤولية الحكم المطلق باسم الولي الفقيه وعلى رؤوس آيات الله.