لماذا تجدر الثقة بحمدوك؟

رئاسة الوزارة لم تضف الكثير إلى بودن وهي لا تضيف الكثير إلى حمدوك، إنها عبء عليه وليست امتيازا وهي مسؤولية يقبلها رجال أو نساء من هذا النوع في محبة أوطانهم وإخلاصا لها.
الأربعاء 2021/12/01
رجل المرحلة

فوق كل ما يعرفه السودانيون والأمم المتحدة والعديد من المنظمات الإقليمية عن عبدالله حمدوك، فالحقيقة هي أن رئيس الوزراء السوداني رجل أكبر من منصبه.

هذه سمة لو تحصلت في كل أرجاء العالم غير المتقدم لما ظهر طغيان، ولا ساد فشل. وهي تعني أن الجالس على مقعد السلطة ينطوي على دراية معرفية في مجال عمله أو خبرته، ولكنها تعني أيضا أنه عندما يجلس على مقعده، يعرف إلى أين يذهب عندما يقوم منه أو يُقام عنه.

الذين يجلسون على كراسي السلطة ويلصقونها بالصمغ على أعقابهم، إنما يفعلون ذلك لأنهم نزلوا إليها من فراغ، ولم يعد بوسعهم أن يعودوا إلى الفراغ. ذلك أنهم ينظرون إلى أنفسهم من خلال الكرسي، بدلا من أن ينظروا إلى الكرسي من خلال أنفسهم.

أنجيلا ميركل يمكنها أن تتقاعد. يمكن أن تعود لتلقي محاضرات في إحدى الجامعات. أستاذة الفيزياء الكيميائية، والحاصلة على دكتوراه في “كيمياء الكم”، ما كانت لتخسر شيئا لو أن أصولها العائلية لم تدفعها إلى الاهتمام بالسياسة عندما ترشحت في العام 1990 لتُنتخب إلى البوندستاغ (البرلمان) عن دائرة شترالزوند الشمالية في مقاطعة فوربوميرن – روغن. من هناك شقت لنفسها طريقا مختلفا. وبرغم أن سجلها في المستشارية الألمانية الذي دام لـ16 عاما يُعد واحدا من أنجح سجلات زعماء العالم، فإن عالمة الكيمياء هذه ربما كان يمكنها أن تعيش حياة سعيدة، أقل تطلبا، بين الجامعات والمختبرات.

تنسحب ميركل والابتسامة العريضة تغمر وجهها دائما، وكأنها ذاهبة إلى عطلة سعيدة، أو وكأنها عادت لتملك نفسها وتعين جسدها المنهك بالقليل من القلق والمزيد من النوم. وعندما سئلت ماذا ستفعلين؟ قالت إنها سوف تمضي وقتا أطول في القراءة والمشي والاستمتاع بالحياة اليومية. أما عن المستشارية فقالت “إن الناس سوف يتعودون على أني لم أعد المستشارة”، وكأنها أرادت أن تقول لنفسها إنها هي من يجب أن تتعود على أنها لم تعد المستشارة، فينزل عن أكتافها العبء.

حمدوك يعرف "الزول" أولئك. يعرف من أي طينة هم. ويعرف أنهم جاؤوا من الفراغ، ويمكنهم أن يرتبكوا أي مجزرة

فقط أناس من هذا النوع، رجالا أو نساء، هم الذين يتعين أن يتولوا السلطة. وليس سقط متاع يهبطون على الكراسي ولا يعرفون إلى أين يذهبون من بعد ذلك.

نجلاء بودن رمضان التي عينها الرئيس قيس سعيد لتكون أول رئيسة للوزراء في تونس والعالم العربي، هي امرأة من هذا النوع. جاءت إلى السلطة من كعب عال في الهندسة.

المتخصصة في علوم الجيولوجيا والمديرة العامة في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، تعرف إلى أين تذهب إذا انقضى أجل ولايتها على المنصب. نجحت أم لم تنجح، بحسب ما قد يحيط بها من ظروف، فإن “المنصب” في عينيها، كما هو في عين كل خبير ممتلئ، ليس هدفا بحد ذاته. إنه أداة لهدف آخر.

نجلاء المنقوش، أول وزيرة للخارجية في ليبيا – والخامسة في العالم العربي بعد الموريتانيتين الناهة بنت مكناس وفاطمة فال بنت أصوينع، والسودانيتين أسماء محمد عبدالله ومريم الصادق المهدي – برغم كل ما تعرضت له من هجمات كادت تشمل حتى الحذاء الذي ترتديه، فقد ظل حذاؤها أعلى مقاما من جماعات السلاح الإخوانية في ليبيا. فهم بينما لا يعرفون ماذا سيفعلون لو تجردوا من القدرة على تشكيل عصابات مسلحة، فإن حاملة الدكتوراه في إدارة الصراع والسلم من جامعة جورج مايسون الأميركية لن تعجز عن أن تجد لنفسها مكانا يليق بها في أي جامعة في الولايات المتحدة أو أوروبا أو العالم العربي.

لم تضف وزارة الخارجية الكثير إلى المنقوش، كما لم تضف رئاسة الوزارة الكثير إلى بودن رمضان، وهي لا تضيف الكثير إلى عبدالله حمدوك. إنها عبء عليه، وليست امتيازا. وهي مسؤولية يقبلها رجال أو نساء من هذا النوع في محبة أوطانهم وإخلاصا لها، لا طمعا بتعريف، ولا رغبة بامتيازات أو رواتب.

مصيبة أناس من هذا النوع، هي أنهم ولدوا في بيئة من نوع بيئتنا الرديئة. حيث يتسلط المتسلطون لأنهم لا يملكون أي معنى، ولا يجدون لأنفسهم تعريفا آخر أفضل، في أعينهم، من ألقاب السلطة.

والمسألة لا تتعلق بلقب علمي أو شهادة. إنها تتعلق بكبر النفس وعمق الخبرة، والمكانة المسبقة. وهي صفات لم يملكها واحد مثل طبيب العيون بشار الأسد، الذي لمّا تولى السلطة صار أعمى.

هناك مَنْ يعترض على “الاتفاق السياسي” الذي وقعه حمدوك مع جنرالات الجيش. لقد وجد نفسه في محنة أعقد كثيرا من محنة الذين كانوا يتظاهرون من أجل إطلاق سراحه. وأعقد أيضا من محنة الجنرالات أنفسهم الذين اكتشفوا أنهم، بانقلابهم الأحمق، لا يستطيعون الحكم، ولا دفع رواتب الموظفين، ولا تسيير أي عجلة في البلاد، ثم يضطرون في مواجهة الفشل أن يمارسوا القتل، لأنه الشيء الوحيد الذي تعلموه.

لقد حان الوقت تماما لكل العالم العربي أن يكف عن انتخاب سقط المتاع الرُّخّص الذين لا تعريف آخر لهم إلا مناصب السلطة.

حمدوك يعرف “الزول” أولئك. يعرف من أي طينة هم. ويعرف أنهم جاؤوا من الفراغ، ويمكنهم أن يرتبكوا أي مجزرة. وفي الظروف الدولية التي تحيط بالسودان، فإنهم لن يترددوا في دفعه إلى الهاوية ليكون سوريا أخرى أو صومالا آخر، من دون أن يُحدث ذلك في أنفسهم أي فرق.

أمسك العصا من الوسط، لكي يعطي أصحاب المواهب الانقلابية المسلحة فسحة أخيرة من الزمن لا تتجاوز 18 شهرا لكي يتكيفوا مع واقع يفرض عليهم الانسحاب من السياسة إلى ثكناتهم، ويكفوا عن البلاد شرهم وشهواتهم الهستيرية بالسلطة.

الأحزاب السودانية المختلفة تحتاج هي الأخرى إلى هذه الفسحة القصيرة من الزمن لإعادة ترتيب أثاث المنزل، فيتاح لها وللبلاد أن تبني أسسا أفضل للإدارة العامة.

ولا خوف على حمدوك. سوف يعرف إلى أين يذهب بعد أن ينقضي أجل ولايته. جاء إلى السلطة مطلوبا، لا طالبا. ولو تولى المسؤولية واحد من أهل الكفاية والخبرة، فلسوف يغادرها حمدوك بابتسامة عريضة، ليقضي عطلة سعيدة، أو يجد وقتا أطول للقراءة.

هذا النمط فقط، من الرجال أو النساء، هو من يتعين أن يُنتخب.

لقد حان الوقت تماما لكل العالم العربي أن يكف عن انتخاب سقط المتاع الرُّخّص الذين لا تعريف آخر لهم إلا مناصب السلطة. لأنهم، كما دلت كل تجربة، سوف يضعون صمغا على الكرسي لكي تلتصق به أعقابهم، فلا يتحركون إلا والكرسي لاصق بها.

توجد في العالم المتقدم ضوابط مؤسسية وقوانين تحمي تداول السلطة، أما في عالمنا فنحن لا نملك أكثر أهمية ونفوذا من ضوابط النفس.

وهناك سؤالان فقط يجدر أخذهما بالاعتبار في النظر إلى أي مرشح للسلطة: هل هو أكبر من منصبه؟ وهل يعرف وجها آخر للحياة عندما يغادر؟

عندما يكون الجواب، نعم، ونعم، فإنه يمكن للناخب أن يضع على بطاقة الانتخاب “نعما” ثالثة.

9