لقاء في متحف

ليست هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها لوحة الفنان الفرنسي هنري ماتيس "الرقص" في متحف موما بنيويورك. ولكنني في كل مرة أقف أمامها منبهرا ومشدودا كما لو أنني أقف أمامها أول مرة. رسمها ماتيس عام 1910 بناء على طلب رجل أعمال روسي.
تكليف نتجت عنه تحفة يمكنها أن تقف بجدارة إلى جانب "آنسات أفنيون" لبيكاسو التي رُسمت قبلها بثلاث سنوات. تنافس الرسامان الصديقان على خلق عالم جديد، لا يكون الرسم فيه تابعا للتصوير الفوتوغرافي. استلهما كل شيء من أجل قيام ذلك العالم، أفريقيا والأطفال والمجانين والبدائيين والكهوف واليابان والزخرفة العربية، كل شيء من أجل أن لا يكون العالم في لوحاتهما شبيها بالعالم الواقعي.
لوحة الرقص أسميها شخصيا "راقصات ماتيس". صحيح أنه رسم راقصاته بخطوط مبسطة غير أنه ملأهن فتنة وشهوة وجموحا ونشوة. إنهن يرقصن فيرقص العالم من حولهن. جلست أمامهن ساعات لم أكن أرغب فيها أن يمر الوقت. لقد كنت أرغب في أن يستمر الرقص كما أراده ماتيس إلى ما لا نهاية. وهو لن يتوقف لأن اللوحة المعروضة في متحف موما تجذب إليها سنويا ملايين المشاهدين من كل أنحاء الأرض. يغير المتحف معروضاته إلا أنه يبقي على راقصات ماتيس وآنسات بيكاسو في مكانهما. اللوحتان لا تقلان جذبا وإثارة عن موناليزا دافنشي وصرخة النرويجي أدفار مونك.
حين وقفت أمام الراقصات نسيت نيويورك وخُيل إلي أنني في باريس أستمع إلى صوت أديث بياف. أفكر بطريقتي. أفكر في ما لم يفكر فيه ماتيس حين رسم راقصاته. لقد أراد للوحته أن تكون في روسيا فإذا بها تقيم في أميركا. في نيويورك وهي الجزء الذي كان مسؤولا عن تصدير ثقافة أميركا إلى العالم. مثل الجينز والهمبرغر والصلصة المعلبة مرت الثقافة الجاهزة فكانت هوليوود سيدة السينما في العالم وهي تقدم راعي البقر باعتباره قاتلا شريفا. أميركا لا تشبه نفسها دائما.
فيما كنت جالسا أمام لوحة الراقصات سمعت المرأة التي جلست إلى جانبي وهي تحدث نفسها بلغة قريبة من العربية. التفت إليها فالتقت عيناي بعينيها. وكما يبدو فإنها كانت تنظر إلي قبل أن التفت إليها. قالت "هل كنت تتحدث بالعربية؟" فوجئت. سألتها "هل كنتُ أهذي؟" قالت مبتسمة "نعم" ابتسمت "خُيل إلي أنك كنت تهذين. من أين أنت؟" قالت "من المغرب. البلد الذي أحبه ماتيس. بل أنا من طنجة. هل تعرفها؟"، قلت "أنا مغرم سيدتي بها وزرت الغرفة التي أقام فيها بطنجة" قالت "كم تمنيت لو أنني عشت في زمانه لكنت واحدة من بطلات لوحاته" لم تقل "واحدة من راقصاته" غير أنني حين رأيتها تبتعد رأيتها تمشي كمَن ترقص.