لقاء الأرواح العجيب!

تصادفنا، أحيانا، حوادث يقف إزاءها العقل البشري حائرا لا يجد لها أيّ تفسير. وقد تحدث العالم العراقي علي الوردي عن هذا النوع من المصادفات وأسماها “خوارق اللاشعور”. ورغم أنه غاص عميقا في تتبّعها ومحاولة تفسيرها، إلا أنه لم يجد لها سببا محددا ينهي الجدل بشأنها.
أفقت أول أمس الجمعة وأنا في شوق للصديق والزميل المذيع العراقي غازي فيصل، المنفي اختياريا واضطراريا، في القاهرة، بعد الغزو الأميركي للعراق، بسبب اختلاط الحابل بالنابل، وبدء العصابات المتطرفة في ملاحقة كل من تعتقد أنه من أتباع النظام السابق للانتقام منه أو حتى اغتياله، خصوصا إذا كان قد تميّز بدور في الدفاع عن وطنه وأهله ضد الغزو والاحتلال.
لقد كانت آخر مكالمة بيننا قبل أكثر من عام. ثم حاولت الاتصال به صباح الجمعة أكثر من مرة ولم يرد، فظننت أنه قد غيَّر رقم هاتفه أو أنه مشغول، فقررت أن أتصل بأحد أصدقائنا المشترَكين في القاهرة للاستفسار عنه وعن أحواله وعن هاتفه الجديد.
ولكنني تباطأت لأفاجأ بخبر رحيله منشورا على مواقع التواصل الاجتماعي.
والراحل غازي فيصل من جيل الإذاعيين الذي جاء بعد جيلنا، فقد التحق بنا في العام 1965، ولكنه في فترة قصيرة أثبت جدارة وبرزت مواهبه، وأصبح من أنجح زملائه الذين التحقوا معه بالعمل الإذاعي في نفس الفترة.
شارك مع الراحل مشتاق طالب والمذيعة الشهيرة أمل المدرس في إدارة وتقديم برنامج البث المباشر الشهير في أوائل السبعينات، وكان لهذا البرنامج الفضل في شهرة غازي ونجاحه.
وبعد أن غادر الساحة أغلب زملاء جيلنا الإذاعي، كلٌّ لسبب مختلف، كان غازي فيصل من الذين تسلموا القيادة ونجح فيها بمواهبه وطبيعته الشخصية الهادئة المسالمة.
لقد تقطعت بيننا الاتصالات سنوات طويلة، إلى أن فاجأني في العام الماضي بمكالمة من القاهرة. وتواصل الاتصال ثم توقف دون سبب. حتى كانت المفاجأة صباح الجمعة.
وأتساءل، مع نفسي، عن تفسير ما حدث. لماذا لم يتصل بي قبل هذا اليوم؟ ولماذا لم أتصل به أنا قبل اليوم؟ سنة كاملة؟ ولماذا شعرتُ اليوم، تحديدا، بشوق شديد لمهاتفته، لأكتشف أنه رحل عن هذه الدنيا، وصباح هذا اليوم، أيضا؟
وبرحيله سقط واحد آخر من الموهوبين العراقيين أصحاب الكفاءات النادرة في بلاد الاغتراب، منسيين، ومهملين، ومهمومين ومعوزين.
لماذا نحن العراقيون، وحدنا بين جميع شعوب الدنيا، ندوس على مبدعينا بقسوة في حياتهم، وحين يموتون نتغنى بإبداعاتهم ونمجّد آثارهم، وغيرُنا، يُكرّمون أبناءهم المبدعين، ويُغدقون عليهم، ويبالغون في رعايتهم أكثر مما يرعوْن جنودهم وشرطتهم وجُباة ضرائبهم وسماسرة بنوكهم وتجارهم؟ لروحك غازي فيصل ألف سلام.