لغز تحفيز الاقتصاد الأميركي يذكي المخاطر العالمية

الإشارات المتضاربة في المؤشرات تتطلب من الأسواق الناشئة والنامية التأهب للمزيد من الرياح المعاكسة.
الاثنين 2023/08/28
الأنفاس محبوسة ترقبا للمخاض العسير

يتفق محللون على أن قضية تحفيز النمو الاقتصادي الأميركي، الذي لا يزال يتسارع بوتيرة تضخمية مع تباطؤ أجزاء رئيسية أخرى من العالم، تذكي مخاطر أكبر قد تهدد الأسواق وتطيل أمد تعافيها إذا اضطر صناع السياسات النقدية إلى مواصلة زيادة الفائدة أعلى من المتوقع.

وايومنغ (الولايات المتحدة) - يراقب الخبراء بتركيز بالغ مآل خطوات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي (البنك المركزي) على الاقتصاد العالمي المحشور بين نمو ضعيف وديون ضخمة لا يمكن التكهن بمدى قدرة الحكومات على تقليصها.

وكان من المحتمل أن تؤدي الزيادات القوية في الفائدة الأميركية على مدار 2022 إلى الضغط على النظام المالي العالمي مع ارتفاع الدولار.

ولكن التأثير كان ضعيفا بسبب الزيادات المتزامنة في الفائدة والإجراءات الأخرى، التي اتخذتها السلطات النقدية لمنع مشاكل التمويل بالدولار على نطاق واسع للشركات.

وبدأت البرازيل وتشيلي والصين في خفض الفائدة، ومن المتوقع أن تتبعها دول أخرى، وهي الإجراءات التي قال عنها المسؤولون الدوليون ومحافظو البنوك المركزية إنها تتماشى وسياسة التشديد النقدي في الولايات المتحدة.

وأكد هؤلاء خلال المؤتمر السنوي للبنوك المركزية في جاكسون هول بولاية وايومنغ الأميركية الأسبوع الماضي أنها تتوافق إلى حد كبير مع التوقعات بأن الاحتياطي الفيدرالي لن يرفع الفائدة أكثر من زيادة إضافية بربع نقطة مئوية.

أوليفييه جورينشاس: لا يمكننا استبعاد جولات من التشديد النقدي الحاد للغاية
أوليفييه جورينشاس: لا يمكننا استبعاد جولات من التشديد النقدي الحاد للغاية

وفي حين انخفض التضخم الأميركي واتفق صناع السياسات على أنهم يقتربون من نهاية رفع الفائدة، لكن نمو الاقتصاد ظل قويا على غير المتوقع.

وأشار رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول إلى هذا الأمر في تصريحات أدلى بها الجمعة الماضي، مؤكدا أن الإجراءات قد تؤدي إلى توقف التقدم في التضخم.

وقال “إذا وصلنا إلى نقطة حيث تكون هناك حاجة إلى القيام بأكثر مما تم تسعيره بالفعل، ففي مرحلة ما قد تبدأ الأسواق في التوتر ثم ترى زيادة كبيرة في علاوات المخاطرة في فئات الأصول المختلفة”.

ويرى محللون أنه قد تكون لهذا النوع من الصدمات السياسية، في لحظة التباعد الاقتصادي الأميركي مع بقية العالم، تأثيرات مضاعفة كبيرة.

وقال كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي بيير أوليفييه جورينشاس إن “الأسواق الناشئة، بما في ذلك بقية العالم تواجه خطر التشديد المالي.. تشديد مالي حاد للغاية، وأعتقد أنه لا يمكننا استبعاد ذلك”.

وهذه هي اللحظة التي يتعين على الدول الأخرى مراقبتها والتأكد من أنها مستعدة للمخاطر المحتملة المتمثلة في أنه لم يتم الوصول إلى هذه المرحلة بعد في ما يتعلق بتباطؤ التضخم الأميركي.

وقالت لوريتا ميستر رئيسة الاحتياطي الفيدرالي في كليفلاند لرويترز على هامش المؤتمر إنه “بعد صدمة الجائحة وانتعاش التضخم الذي دفع معظم الدول إلى رفع الفائدة معا، من الطبيعي الآن أن تتباين السياسات”.

لكن الكثير من صناع السياسات النقدية حول العالم يعتمدون في خطواتهم على قيام الاحتياطي الفيدرالي بالأمر الصحيح.

وقالت ميستر “الاقتصاد العالمي مترابط.. وما نفعله بسياستنا إذا تمكنا من العودة إلى اثنين في المئة في الوقت المناسب، وبطريقة مستدامة، وإذا كان لدينا سوق عمل قوي، فهذا أمر جيد للاقتصاد العالمي”.

وسيقدم صناع السياسة النقدية الأميركية تحديثًا مهما لتوقعاتهم في اجتماع سبتمبر المقبل، إذ قد يتركون الفائدة دون تغيير عند 5.25 إلى 5.5 في المئة.

وإذا استمرت بيانات التضخم وسوق العمل في إظهار تراجع في ضغوط الأسعار والأجور، فإن التوقعات الحالية بزيادة ربع نقطة مئوية فقط قد تظل قائمة.

ومع ذلك، يظل مسؤولو الاحتياطي الفيدرالي في حيرة من أمرهم، ويشعرون بالقلق إلى حد ما إزاء الإشارات المتضاربة في البيانات.

ويشير البعض إلى ضعف التصنيع، وتباطؤ الإنفاق الاستهلاكي، وتشديد الائتمان، وكل ذلك يتوافق مع تأثير السياسة النقدية الصارمة وتهدئة ضغوط الأسعار.

لكن أكبر اقتصاد في العالم لا يزال يتوسع بوتيرة أعلى بكثير مما يعتبره الاحتياطي الفيدرالي معدل نمو غير تضخمي يبلغ نحو 1.8 في المئة.

Thumbnail

ونما الناتج المحلي الإجمالي الأميركي بمعدل 2.4 في المئة خلال الربع الثاني من 2023، وتشير تقديرات إلى أن وتيرة الربع الحالي تزيد عن ضعف ذلك.

ويبدو التناقض حادا مع الاقتصادات العالمية الرئيسية الأخرى، فقد نمت منطقة اليورو بمعدل سنوي قدره 0.3 في المئة بالربع الثاني، وهي سرعة بطيئة بشكل أساسي. وفي الوقت نفسه، فإن الصعوبات في الصين قد تؤدي إلى تراجع النمو العالمي كلما طال أمدها.

وعن هذا الاختلاف قالت رئيسة البنك المركزي الأوروبي كريستين لاغارد إن “التوقعات كانت تشير إلى ركود، وربما ركود عميق في أجزاء من في منطقة اليورو بعد الغزو الروسي لأوكرانيا العام الماضي”.

واستمر النمو في أوروبا، وإن كان بطيئاً، وانخفض التضخم، وهي ديناميكية شاملة لا تختلف عن تلك التي تشهدها الولايات المتحدة. وقالت لاغارد “كنا نتوقع أن يكون كل ذلك أسوأ بكثير. لقد تبين أنه أكثر قوة وأكثر مرونة بكثير”.

وتتسبب السياسة المالية الأميركية في إحداث بعض الفارق، حيث لا تزال المساعدات التي تبلغ قيمتها 6 تريليونات دولار في فترة الوباء تدعم الإنفاق الاستهلاكي. كما أن دفعة استثمارية حديثة من إدارة الرئيس جو بايدن تدعم التصنيع والبناء.

ويقول خبراء إن الصين قد تلعب أيضا دورا، فتباطؤ اقتصادها بعد انفجار النمو قصير الأجل في وقت سابق من هذا العام قد يؤثر على صادرات ألمانيا ويبطئ النمو في أوروبا، على سبيل المثال.

لكن ناثان شيتس كبير الاقتصاديين في سيتي غروب قال “عندما تسمع الاقتصاديين يقدمون لك ثلاثة أو أربعة أسباب لشيء ما، فعادةً ما يكون ذلك لأننا لا نعرفه حقا”.

وكلما طال أمد تفوق الاقتصاد الأميركي، كلما زاد تساؤل مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي عما إذا كانوا يفهمون ما يحدث. وعلى سبيل المثال، قد يفسر التحسن الأخير في الإنتاجية كيف يستمر التضخم في الانخفاض حتى مع بقاء النمو قويا.

وفي ظل التفكير الحالي للمسؤولين الأميركيين فإن الأمر يتطلب فترة من النمو دون الاتجاه لدفع التضخم بشكل مستدام إلى العودة إلى هدف اثنين في المئة، حيث تبلغ مقاييس التضخم الرئيسية حالياً أكثر من ضعف ذلك الرقم.

ويعتقد معظم المسؤولين أن الاقتصاد سيتباطأ، حيث يتم الشعور بالسياسة المتشددة والائتمان الصارم بشكل أكبر ويتم إنفاق مدخرات عصر الوباء.

لوريتا ميستر: صدمة الوباء وانتعاش التضخم أفرزا تباينا في السياسات
لوريتا ميستر: صدمة الوباء وانتعاش التضخم أفرزا تباينا في السياسات

وبدأت حالات التأخر في سداد القروض الاستهلاكية في الارتفاع، وقد تؤدي إعادة تشغيل مدفوعات القروض الطلابية إلى رفع الإنفاق على الخدمات الأقل تأثراً بإجراءات بنك الاحتياطي الفيدرالي حتى الآن.

وفي خضم ذلك أشارت دراسة بحثية إلى صعوبة التوصل إلى حل حقيقي للارتفاع الحاد في أعباء الدين العام على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية التي اقترضت خلالها الحكومات مبالغ كبيرة لمواجهة الأزمة المالية العالمية وتداعيات الجائحة.

وبحسب الدراسة التي قدمها الخبير في صندوق النقد الدولي سيركان أرسلان ألب وأستاذ الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا باري آيكنجرين خلال فعاليات الندوة فإنه منذ 2007 ارتفع متوسط الدين العام على مستوى العالم من 40 إلى 60 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.

وكانت نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي أعلى في البلدان المتقدمة. وشمل ذلك الولايات المتحدة، أكبر اقتصاد في العالم، حيث يتجاوز الدين الحكومي الآن الناتج الاقتصادي السنوي للبلاد.

وكان دين الولايات المتحدة يبلغ نحو 70 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي قبل 15 عاما.

وذكرت الدراسة أنه رغم تزايد المخاوف حيال تداعيات ارتفاع الديون على معدلات النمو، فإن “تخفيض الديون غير وارد الحدوث من الناحية العملية رغم كونه أمرا مرغوبا فيه من حيث المبدأ”.

وأضافت أن الكثير من اقتصادات العالم لن تتمكن من تجاوز أعباء ديونها بسبب شيخوخة السكان فيها بل إنها ستحتاج إلى تمويل جديد لتلبية احتياجات مثل الرعاية الصحية ومعاشات التقاعد.

وجاء في الدراسة أن “الديون العامة المرتفعة ستظل على حالها وسواء شئنا أم أبينا، ستضطر الحكومات إلى التعايش مع الديون المرتفعة الموروثة”.

Thumbnail
11