لغز اسمه السويحلي

الاغتيال يقبض الأنفاس، يعكس انعدام كل سبل الحوار مع الآخر، وانحطاط السياسة إلى درك القتل. ومن ترتبط محاولات الاغتيال والتصفية عادة باسمه من شخصيات ورموز سياسية في أعلى هرم السلطة وجهاز الدولة، يكون قد حاد عن الهدف المرسوم له وأضحى يسبح عكس التيار، أو أنه فاعل وقادر على قلب المعطيات وتحريك الأمور، وقد يكون ذلك متعلقا أيضا بالثأر والانتقام العائدين إلى بعض القضايا التاريخية المتوارثة والنعرات القبلية التي لا تنتهي.
هنا رجل من الذين تكتب لهم النجاة من محاولة اغتيال مرتين، آخرهما الشهر الماضي، إثر كمين مسلّح نصب له أثناء زيارته لمدينتي غريان ويفرن غرب ليبيا ونتج عنه إطلاق نار أسفر عن إصابة اثنين من عناصر الأمن والحماية، فيما كانت المحاولة الأولى في فبراير 2017 حين كان برفقة رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق فايز السراج.
العارفون يقولون عن عبدالرحمن السويحلي إنه من النادر أن تجد اسمه في المواقف العادية، حيث أنه يطل برأسه عادة في الظروف الصعبة، أو حين يكون هناك مفترق طرق ويسود الارتباك، حينها يبرز واقفا لحسم الموقف وتوجيه دفة الأمور. فيما يقر خصومه بأنه البارع في قلب الحسابات والظهور بموقف المعارض لكل القرارات المصيرية التي أدخلت ليبيا في أتون من النزاع والعنف.
تاريخ ملتبس
هكذا يلوح السويحلي ابن مدينة مصراتة الليبية للناظر في سيرته. فهو سياسي ونقابي وبرلماني، ورئيس لحزب يدعى الاتحاد من أجل الوطن في ليبيا، ورئيس للمجلس الأعلى للدولة منذ انعقاده للمرة الأولى بتاريخ 6 أبريل 2016. ولد في أربعينات القرن الماضي لأسرة لها تاريخ طويل في إرباك الاحتلال الإيطالي لليبيا.
لكن البعض يرى أن تاريخا ملتبسا كان قد ارتبط بلقب هذه العائلة لا يمحوه ماح من تاريخ ليبيا. ذلك أنه ووفقا لما يتردد فإن جدّه هو من كان وراء إفشاء أسرار المناضلين ضد الاستعمار الإيطالي.
الحركة الطلابية التي انتمى إليها السويحلي والتي وصفت بالنشيطة في الخارج زمن السبعينات، وتحديدا في بريطانيا، توصف أيضا بالمعارضة لنظام القذافي. لكن هناك من يقول إن صدى هذه المعارضة لم يكد يسمع خلال تلك الفترة، لأن النظام الليبي كان يطبق على كل أركان الحكم تقريبا، ولم يكن يسمح بأي نوع من التمرد والوقوف على الخط الموازي له.
كانت منطقة الشرق الأوسط تعيش على وقع تداعيات أزمة حرب أكتوبر عام 1973، وخلال تلك الفترة عمل السويحلي على التكثيف من نشاطه، وبدأ يشق طريقه إلى الأوساط السياسية منتقلا للدراسة في الخارج، حيث أخذ ينسج علاقاته مع مجموعات طلابية انتقلت لاستكمال دراستها هي الأخرى في أوروبا وخصوصا في بريطانيا.
السويحلي يمتلك تجربة سياسية قديمة تعود إلى سنوات المد القومي في سبعينات القرن الماضي حين كان معارضا شرسا للقذافي، بينما تذهب بعض التحليلات إلى أنه ينتمي إلى جيل المعارضين المقلمة أظافرهم، الذين عادوا إلى ليبيا وركنوا في صف المعارضة الكارتونية المطيعة
ربما كان من الأشياء التي تحسب للسويحلي، على قلتها، أنه نشيط جدا إلى حد لا يوصف في رسم خطواته، حذر جدا في اختيار طريقه كلما تحرك، وقبل أن يغيّر مكانه ينظر إلى الأمام والخلف، ثم يتخذ القرار، حتى لو لم تكن نتائجه مضمونة العواقب.
من هنا يبدو أن حاسة قوية من الحدس لديه يشغلها باستمرار وخصوصا كلما كان يحسّ بالخطر، لكن هذه المرة وفي مثيلتها أيضا، يبدو أن هذه الحاسة خدعت صاحبها وأخذته إلى متاهات أخرى كادت تودي بحياته.
أدرك السويحلي مبكرا استحالة تغيير نظام القذافي بأي حال من الأحوال بالاعتماد على حركة طلابية صغيرة تنحصر أنشطتها بعيدا عن أرض الوطن، فيما ظلت غالبية من المعارضين تعيش شتاتا في أكثر من عاصمة أوروبية. وعليه فقد قرر الرجل في أواخر ثمانينات القرن الماضي العودة إلى ليبيا والابتعاد عن العمل السياسي رغم ما كان وراء هذه العودة من مخاطر.
فوضى الماضي والحاضر
تلك الرواية وضعت السويحلي يوما ما موضع مساءلة وإحراج ودفعت به إلى واجهة الانتقادات، رافعة عنه كل نفس يدّعي المعارضة، لكنّ ما لا يمكن إنكاره أن ذلك ربما يدخل في إطار صفقة كان مرتبا لها مسبقا مع النظام نفسه، خضعت لها أغلب القيادات التي ظهرت في صورة المعارضة المزيّفة التي سلّمت بأمر السلطة واختارت التخندق وراء النظام.
فيما تقر مصادر بأن أخاه حمدي السويحلي من كان وراء عودته إلى ليبيا بترتيب مع النظام آنذاك، لكن السويحلي ينفي عن نفسه هذه التهمة ويؤكد أن “أخاه كان معارضا لعودته إلى ليبيا”، ويفسر ذلك بقوله “أخي كان يعتقد أن ذلك ربما كان تنازلا من عبدالرحمن السويحلي لنظام القذافي”. ويضيف على ذلك بترديد قولة شهيرة أضحت محل تندّر وضحك في أغلب البلاتوهات والبرامج التلفزيونية مفادها “خرجت من ليبيا بقرار شخصي وعدت إليها بقرار شخصي”.
تعرف مدينة مصراتة التي يتحدر منها السويحلي، تاريخيا، بكونها مهد التيارات الإسلامية وخصوصا الجماعات الإسلامية بصورتها الحالية. وقد أثرت هذه الخلفية في شخصية الرجل، كما يبدو، وصقلت تكوينه الذي يستبطن الكثير من فن الجماعة الموغل في رفض ونبذ الآخر حتى ولو كان على حساب مصلحة ليبيا.
لكن، ومع ذلك، فإن بعض القيادات في التيار الإسلامي تصنّف السويحلي على أنه من العلمانيين، بينما يصنفه البعض الآخر ضمن التيار الإخواني، فيما يقول عنه محايدون إنه “سياسي يجيد استخدام ما لديه من أوراق”.
السويحلي وحسب ما تجمع عليه الآراء كان على النقيض مما كان يرتّب داخليا في ليبيا زمن حكم القذافي. فقد جمع ما بين سلطة المال والنفوذ، مستندا على إرث عائلته التي عرفت بثرائها الفاحش ليختار التخندق بين سلطة المال وغرور السياسة.
إن ما مرّت به مصراتة وما عاشه أثرياؤها ووجهاؤها من منعطفات مهمّة تدخلت بطريقة أو بأخرى في شخصية السويحلي وطريقة موازنته للأمور وترتيبها ووضع تصوراته للمستقبل بعد رجوعه إلى ليبيا ببضع سنوات، غير أنه مضطر إلى أن يقف في مفترق طرق لجهة ارتباط اسمه واسم عائلته بماض سحيق يتعلق أساسا بالثأر وسيناريو تصفية الحسابات بين مدينته مصراتة ومدينة بني وليد التي تتمركز بها قبيلة ورفلة.
أصل الخلاف بين مدينتي بني وليد التي تقطنها قبيلة ورفلة ومصراتة يرجع إلى نحو مئة سنة مضت. وكان محوره قائما أساسا بين رجلين صديقين أحدهما من أجداد السويحلي اسمه رمضان السويحلي، وكان زعيما كبيرا لقبائل مصراتة، فيما يدعى الثاني عبدالنبي بالخير، وهو زعيم قبيلة ورفلة.
وقد كان للرجلين دور كبير في تأسيس أول جمهورية عربية هي جمهورية طرابلس، لكنّ تباينا في وجهات النظر والرؤى في التعامل مع المحتل الإيطالي وقتذاك، دفع السويحلي الجدّ إلى شن هجوم عسكري كبير على ورفلة، لكن المعارك انتهت بمقتله وانتهت أيضا باختفاء بالخير من ليبيا.
وبقيت نعرة الثأر والانتقام راسخة بين أنصار الجانبين من مصراتة وورفلة لسنين طويلة، وظل كل طرف منهما يتربص بالآخر.
تواصل هذا الجدال والتناحر بين المكونين إلى حين قيام ثورة 2011 ضد نظام القذافي. فوجد أهل مصراتة وقياداتها ومن بينهم السويحلي أنفسهم عند مفترق طرق، لذلك كان يقوم بتأليب الأنصار ضد الزعيم الراحل للإطاحة به، وهو ما أدى إلى الزجّ به في السجن مع عدد من أفراد أسرته.
ولاءات متعددة
أدى إصرار الجماعات الإسلامية التي باشرت أعمالها التخريبية في ليبيا ضد نظام القذافي إلى تحرير السويحلي ومن معه من السجن، ليؤسس بعد ذلك حزب الاتحاد من أجل الوطن في عام 2012، ثم فاز في انتخابات المؤتمر الوطني العام (البرلمان السابق، وهو الأول بعد سقوط النظام السابق) عن مدينة مصراتة، والتي أجريت خلال شهر يوليو من تلك السنة وترأس فيه لجنة الدفاع والأمن القومي، ثم أصبح رئيسا للمجلس الأعلى للدولة في ليبيا منذ انعقاد أعماله في العام 2016.
بعد انهيار نظام القذافي عمل السويحلي على تشغيل ماكينته في كل الاتجاهات تقريبا. تركز نشاط الرجل مع أكثر من محيط إقليمي مشبوه بدءا بقطر التي أسهبت في تمويل وتزكية نشاطات المجموعات الإسلامية التي ترعاها في ليبيا، وكان الرجل وفقا لقراءات متعددة ذراعها المشتغلة في كل مكان من التراب الليبي بدءا من مصراتة إلى مناطق أخرى كانت خارجة عن سيطرة قوات الجيش في يوم ما. فقد ركّز القطريون على استقطاب الأيادي والعقول المتنفذة خدمة لمشروعهم التخريبي في ليبيا، فعملوا على استدراج رجال الأعمال وأبرز النشطاء السياسيين الذين يدينون لهم بالولاء بمن في ذلك السويحلي.
هذا الكلام يجد مبررا له في تكثيف الرجل لتردداته على الدوحة في بداية المخاض الليبي، وهو ما أثار العديد من الشكوك حول ضلوعه في ملفات غامضة في ليبيا وبتواطؤ قطري، لكن رغم تراجع هذه العلاقة، على الأقل إعلاميا، في المدة الأخيرة بعد قطع الرباعي العربي لعلاقته مع الدوحة، فإن متابعين للسويحلي يقرون بأن القائمة التي أصدرها الرباعي وشملت العديد من الشخصيات التي ثبت ضلوعها في تمويل أنشطة إرهابية في ليبيا في عدة بلدان عربية أخرى بتمويل ورعاية قطريين ربما دفعته إلى تغيير وجهته مؤقتا.
وجهة ثانية يسير فيها السويحلي لا تقيم وزنا للفترة الحرجة التي تمر بها ليبيا تجد في تركيا أردوغان سندا لها، وممرا يعتقد السويحلي ومن معه أنه طريق آمن، ليلبسوا العلاقة مع تركيا طابعا روحيا يفصح عنه السويحلي نفسه حين يشبه أردوغان بـ”الزعيم الروحي” الذي يستمد منه كل أشكال النضال والمقاومة.
إن تعدد ارتباطات السويحلي بتيار الإسلام السياسي في أكثر من منطقة عربية تدين بالولاء لهذا التيار، سواء في قطر أو تركيا أو الجزائر التي زارها في أكثر من مناسبة، إنما يعكس الوجوه المتعددة لهذا الرجل وتحركاته المريبة التي دفعت بالحوار الليبي إلى التعثر في كم من مرة والسير في طريق مأزوم.
وهكذا يواصل السويحلي اختيار طريق موغل في الأشواك، محركا خطواته في كل الاتجاهات تقريبا، فيطل أحيانا من إيطاليا وأحيانا أخرى من الجزائر التي يقول مراقبون للمشهد السياسي في ليبيا إنها لا ترى مانعا في إشراك الإسلام السياسي في العملية السياسية التي يرتّب لها الفرقاء الليبيون.
في مشهد كهذا وفي صورة ذاتية كصورة السويحلي لا يمكن للمراقب أن يجزم في السؤال: من يستهدف من؟ الذين حاولوا اغتيال السويحلي عدة مرات أم السويحلي ذاته بمساراته الخطرة والملتبسة والمرتبطة مع صناع الموت؟