لعبة مطاردة بين الحكومة التركية والمواقع الإخبارية

صحافيون يستسلمون للرقابة الذاتية هربا من المحاكم.
الأربعاء 2020/08/19
الحكومة التركية تمارس طرقا متعددة للتضييق على الإعلام

تدرك السلطات التركية أن حجب المواقع الإلكترونية غير مجدٍ في العصر الرقمي، إذ تعاود إطلاق منصّاتها بمواقع بديلة، لكنها تلجأ إلى هذه الخطوة لإنهاك المؤسسات الصحافية الصغيرة بالدفع مرارا للروابط البديلة وتكبيدها صعوبات للوصول إلى قرّائها.

أنقرة - يلاحق القضاء التركي المواقع الإخبارية على الإنترنت بالحظر بسبب نشرها تقارير منتقدة للحكومة، فيما وجدت هذه المنصات طرقا للتعامل مع هذا الواقع بإطلاق مواقع بديلة، في لعبة مطاردة مستمرة هدف السلطات من ورائها استنزاف المؤسسات الصحافية الصغيرة ماليا وإضعاف وصولها إلى الجمهور.

وأصدرت المحكمة الدستورية التركية في مارس 2020، قرارا غير متوقع بإلغاء قرار محكمة محلية كانت قد حجبت موقعا إخباريا في 2015، لكن المحرر الذي قدّم الاستئناف إلى المحكمة لا يزال غير راض، إذ يتعذّر الوصول إلى موقعه الأصلي في تركيا إلى جانب 62 بديلا جرى حظرها واحدا تلو الآخر منذ ذلك الحين بحسب ما ذكر الكاتب أوزغور أوغريت في تقرير نشره موقع أحوال تركية، اعتمادا على شهادات صحافيين أتراك قدموها للجنة حماية الصحافيين الدولية.

وأفاد فرحات جيليك، رئيس تحرير صحيفة “ميزوبوتاميا”، بأن موقعه المؤيد للأكراد حُظر 25 مرة منذ 2018. بينما صرح دوغان أرطغرل محرر موقع “كرونوس”، بأن موقعه حُظر 33 مرة منذ 2018. فيما قال فرقان كاراباي محرر “أودا تي في”، إن موقعه القومي اليساري تعرض مؤخرا لهجمات شُنّت أربع منها منذ مارس 2020.

إضافة إلى حظر المنافذ الإعلامية المحسوبة على فتح الله غولن، رجل الدين الذي اعتبرت تركيا حركته جماعة إرهابية.

ويسمح القانون التركي رقم 5651 للمحاكم بإصدار أوامر لمقدمي خدمات الإنترنت المحليين بحظر الوصول إلى الروابط، بما في ذلك المواقع الإلكترونية أو المقالات أو منشورات وسائل التواصل الاجتماعي.

ويهدف القانون الذي أقرّ عام 2007 إلى استهداف استغلال الأطفال في المواد الإباحية والمقامرة عبر الإنترنت والمواد المسيئة لمؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك، من بين أمور أخرى. لكن السلطات استغلته كأداة رقابة قوية. فالقانون هو إحدى الطرق التي تفرض بها الحكومة رقابة على المحتوى عبر الإنترنت. حيث حُظر يوتيوب وويكيبيديا وتويتر عدة مرات بسبب محتوى يعتبر مناهضا للحكومة أو خطيرا على الأمن القومي.

دوغان أرطغرل: زيارة موقع حجبته الحكومة عدة مرات مغامرة للقراء
دوغان أرطغرل: زيارة موقع حجبته الحكومة عدة مرات مغامرة للقراء

وتتولّى الحكومة تقديم معظم طلبات الحظر عبر هيئة تكنولوجيا المعلومات والاتصالات. وأيضا يجوز للأفراد والوكالات الحكومية الأخرى تقديم هذه الطلبات للمحاكم التركية، وفقا لتقرير نشرته “جمعية حرية التعبير” في تركيا في 2020.

وبين عامي 2014 و2019، أمرت المحاكم التركية مزودي خدمات الإنترنت بحظر 408494 موقعا.

ويقول صحافيون إن وسائل الإعلام التركية المستقلة على الإنترنت تُواجه الكثير من العقبات. حتى أن بعض المواقع تشتري أسماء النطاقات بالجملة حتى تتمكن من إعادة التشغيل بسرعة باستخدام عنوان مختلف قليلا.

وأضافوا أنه لا يوجد خط اتصال مع السلطات التي حجبت المواقع، مما يتركهم غير مدركين لسبب إغلاق المواقع. وعلى سبيل المثال بدأ التضييق وحظر موقع “أودا.تي.في” بعد اعتقال ثلاثة موظفين بزعم كشفهم هوية ضابط مخابرات تركي قُتل في ليبيا.

ويطرح البعض تساؤلا: لماذا تصر الحكومة التركية على هذه الممارسة بما أن المواقع تعود على الفور تقريبا؟

ويرى إركان ساكا، أستاذ الاتصالات بجامعة إسطنبول بيلجي ومؤلف كتاب وسائل التواصل الاجتماعي والسياسة في تركيا، أن هناك سببين لذلك “أحدهما هو ما يُعبّر عنه بالمصطلح العسكري: نوع من ‘حروب الاستنزاف’. إذ أن الحكومة تعرف أن هذه المؤسسات الإعلامية صغيرة وذات مصادر محدودة، من الناحية المالية أو التشغيلية. ويجبر كل حظر هذه الشركات الإعلامية على فتح أسماء نطاقات جديدة، واتخاذ القرارات الفنية اللازمة”.

وأضاف أن السبب الثاني يتمثّل في أنه “في كل مرة يتغير فيها اسم النطاق، يفقد الموقع حركة المرور وبعض روابطه الإخبارية، وبذلك تُقيّد أصوات “المواقع بشكل واضح من خلال تغيير أسماء النطاق باستمرار”.

وتؤكد تجربة علي إنجين دميرهان محرّر موقع “سنديكا” هذا التحليل. ففي كل مرة يُعاد فيها إطلاق الموقع، يتعيّن عليه بذل جهد لإعادة توجيه القراء إلى العنوان الجديد، عن طريق الإعلان عنه على وسائل التواصل الاجتماعي أو الاعتماد على المنافذ الأخرى لنشره.

وثبت تعقيد استمرار ظهور مقالاته في نتائج البحث. فمع كل إعادة تشغيل، يجب عليه أن يطلب من غوغل تصنيف العنوان الجديد كموقع إخباري، وإلا فلن تظهر روابطه في أخبار المحرّك أو قسم “أهم الأخبار” في صفحته الرئيسية.

وبعد إعادة التشغيل الخامسة، توقفت إدارة غوغل عن الاستجابة لطلباته. ولم يردّ المكتب الصحافي التابع للمحرك العملاق على البريد الإلكتروني الذي أرسلته لجنة حماية الصحافيين للتعليق.

علي إنجين دميرهان: هذه الممارسات أُجبرت الموقع على التراجع في السباق على القراء
علي إنجين دميرهان: هذه الممارسات أُجبرت الموقع على التراجع في السباق على القراء

وقال دميرهان إن هذه الممارسات أُجبرت الموقع على التراجع في السباق على القراء. ففي الماضي، كان حوالي 300 ألف زائر يترددون على “سينديكا” يوميا، ولكن الحركة انخفضت بعد الحظر إلى حوالي 300 ألف زائر شهريا. وتحدث جيليك وكاراباي عن تباطؤ حركة مماثل في “ميزوبوتاميا” و”أودا تي في”.

كما تسبّب الحجب المتكرر في تقويض سمعة “سينديكا” بين القراء. وقال دميرهان إن المنافذ الإعلامية التي تكون ضحية لهذه الممارسات تعتبر “محفوفة بالمخاطر”، لذلك يتجنّب القراء مشاركة روابطهم على وسائل التواصل الاجتماعي، وتتجنب المصادر في بعض الأحيان التحدث إلى مراسليها.

وقال دوغان أرطغرل إن “زيارة موقع إلكتروني حجبته الحكومة عدة مرات، وترك مثل هذا الأثر الرقمي، تعتبر خطوة مغامرة للكثير من القراء”.

ولرفع الحظر، يجوز للموقع الإخباري أن يستأنف الحكم أمام محكمة محلية. وإذا فشل مسعاه فيمكنه الاستئناف أمام المحكمة الدستورية. وأوضح دميرهان أنه إذا فشل فقد تُرفع القضية إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

ويقول كاراباي، الذي استأنف جميع قرارات الحجب الأربعة لـ”أودا.تي.في”، تستغرق المحكمة الدستورية أحيانا ما يصل إلى خمس سنوات للنظر في القضايا.

ورغم أن دميرهان واجه مشكلة استئناف حجب لموقعه، فإنه يعتبر فوزه الأخير بقرار المحكمة الدستورية إلغاء الحجب غير عادي إذ أن المحكمة منحته 6 آلاف ليرة تركية (820 دولارا).

ويعتبر محررون آخرون أنه لا فائدة من اللجوء إلى المحاكم. وقال جيليك “لم نفعل نظرا لأن المحاكمات ستستغرق وقتا طويلا. وسيُحظر الموقع عدة مرات خلال تلك الفترة وسيؤدي كل استئناف إلى تكلفة مالية”.

وبدوره، أفاد دوغان أرطغرل أنه يريد تقديم استئناف لكن محامي الموقع أخبره أنه “لا توجد فرصة” لنجاحه بالنظر إلى أنه مطلوب في تركيا مع المحررين الآخرين بسبب عضويتهم المزعومة في حركة غولن. وتابع “لذلك، لم نتخذ إجراءات قانونية”.

ومن جهته، رأى كاراباي أن إحدى الطرق للالتفاف حول العقبات تتمثل في الرقابة الذاتية. وأضاف “أنت لست محظورا فحسب، بل أنت مُستهدف في نفس الوقت. لهذا السبب، تُمارس الرقابة الذاتية للضرورة”. لكن دميرهان رفض هذا الحل لأنه لن ينجح على أي حال. فبالنسبة إليه، “لم يكن الحجب نتيجة لجزء معين من المحتوى، بل للسياسة التحريرية العامة، ولوجود الموقع نفسه”.

18