لعبة حية ودرج في نيويورك

نيويورك سلالم، تمرين يومي لعضلات القدمين واختبار لقدرة الركبتين على التحمل. ما أن تفكر في الانتقال من مكان إلى آخر مستقلا قطار الأنفاق عليك أن تكون متأكدا من قدرتك على التحمل، عشرات الدرجات في انتظارك وهي رياضة شاقة.
يفضل البعض من أجل تجاوزها ركوب الحافلات غير أن الحافلات بطيئة كما أنها تمر بشوارع ضيقة ليس فيها ما يثير بصريا، على الرغم من أن الحافلات تخلو من المجانين ومقطوعي الصلة بالعالم الواقعي والمتسولين كما هو الحال في قطار الأنفاق الذي يمكن أن يجعلك سوء الحظ أن تكون فيه هدفا لهذيان أحدهم كما حدث معي حين وقف أمامي رجل وهو يكرر سؤاله “قل لي مَن هو أجمل قتيل في العالم؟"
وحين شعرت أن القطار في طريقه إلى الوقوف في إحدى محطاته قلت له "أنا" وهبطت من القطار مسرعا وأنا مطمئن إلى أنه لن يتبعني. ولكن إن أردت الوصول إلى أيّ مكان في منهاتن فما عليك سوى أن تستعمل قدميك نزولا وصعودا فليست هناك مصاعد في محطات قطار الأنفاق إلا فيما ندر. اختبار سيء للركبتين. ألأنها مدينة شابة؟
قريبا من محطة غراند سنترال عثرت على مبني يتألف من ثلاثة طوابق يقع وسط ناطحات سحاب. ما هذه المعجزة؟ هناك سرّ في بقاء ذلك المبنى صامدا كما هو. لا تنفع التكهنات. ذلك المبنى لا يُقدر الآن بثمن. إنه أشبه بالأعمال الفنية التي تمتلكها المتاحف.
وقفت أمامه في طريقي إلى مطعم إسباني. منهاتن مفاجآتها كثيرة. فهي مدن في مدينة. لقد أريد لها أن تكون العالم مصغرا. وصارت كذلك على الرغم من أن وودي ألن يخبرنا في فيلمه “منتصف الليل في باريس” بشيء آخر.
لقد هجرها أبناؤها وصاروا يتسكعون في شوارع باريس في ثلاثينات القرن العشرين بحثا عن الإلهام. كان أرنست همنغواي الروائي الذي نال جائزة نوبل بسبب روايته القصيرة “الشيخ والبحر” واحدا من أهمهم. تركوا نيويورك غير أنهم لم يكفّوا عن الكتابة عنها. معظم الروايات التي كتبها هنري ميلر تدور أحداثها في شوارع وأزقة بروكلين.
كتب ميلر الذي كان يكتب كمَن يمشي سيرة مدينته من خلال سيرته الشخصية وكان ذلك عملا عظيما على مستوى تطوير الكتابة الروائية. مَن يقرأ روايات ميلر يتعلم فن المشي.
كان هناك مشاؤون كبار في تاريخ الرواية المعاصرة يقف في مقدمتهم الألماني هيرمان هيسه الذي نال جائزة نوبل بسبب روايته “لعبة الكريات الزجاجية” والفرنسي جان جينيه الذي كتب واحدا من أهم كتبه بعدما زار المخيم الفلسطيني صبرا وشاتيلا في بيروت عام 1982.
لا أبالغ إذا ما قلت إن نصف الجهد الذي يبذله مَن يزور نيويورك إنما تستهلكه حركته على السلالم. ربما تكون لعبة “حية ودرج” قد استلهمها مخترعها من زيارة قام بها إلى نيويورك.