لعبة الكراسي في ليبيا

لم يعد هناك من يأبه باللقاءات والاجتماعات التي تنعقد في الداخل والخارج والتي تدار من قبل الليبيين أو من غيرهم لأن النتيجة أصبحت شبه مؤكدة وهي الاتفاق على عدم الاتفاق.
السبت 2022/12/10
البحث عن السلطة

من أبرز الألعاب واسعة الانتشار في العالم لعبة الكراسي، حيث يدور المتسابقون حول كراسي بعدد أقل من عددهم وعندما تتوقف الموسيقى يجلس المتسابقون إلّا واحدا، وتستمر العملية وتنقص الكراسي وينقص المشاركون إلى أن يبقى لاعب واحد يكون هو الفائز.

في ليبيا، يجري العكس تماما، فيوميا يرتفع عدد الكراسي وعدد المتسابقين، ولا يكتفي المتسابقون بالدوران والجلوس مع كل توقف للموسيقى، بل يعقدون اجتماعات عبثية بلا بداية ولا نهاية في مصر وتونس والمغرب وأوروبا وليبيا.

خلال الفترة الماضية ظهرت بوادر توافق بين رئيسي مجلسي النواب والدولة، عقيلة صالح وخالد المشري، على أن يتجها نحو حلحلة الأزمة السياسية المتفاقمة من خلال التوصل إلى تشكيل حكومة جديدة تستلم مقاليد السلطة في كامل أرجاء البلاد، وإعلان التعيينات في المناصب القيادية بالمؤسسات السيادية، ثم التوجه إلى الملف الأصعب وهو المتعلق ببقية البنود الخلافية في القاعدة الدستورية التي ستمهد الطريق للانتخابات المرتقبة بشقيها الرئاسي والبرلماني.

في كل يوم يظهر مليونير جديد في ليبيا، هذا ما قاله المبعوث الأممي السابق غسان سلامة في إشارة إلى اتساع ظاهرة الفساد ونهب المال العام بشكل غير مسبوق

صالح والمشري كانا يشتغلان على هدف يخصهما معا، وهو تقاسم السلطة بالشكل الذي كانا يطمحان إليه منذ اجتماع ملتقى الحوار السياسي في جنيف في فبراير 2021، حيث يرغب رئيس مجلس النواب في رئاسة المجلس الرئاسي، ويريد رئيس مجلس الدولة رئاسة الحكومة القادمة، وهما بذلك يسعيان إلى المزيد من تعميق الأزمة بدل حلها، وقد اصطدما بأن مشروعهما غير قابل للتحقيق نظرا إلى ما يقابله من رفض داخلي وخارجي، ولم يدّخر رئيس حكومة الأمر الواقع بطرابلس عبدالحميد الدبيبة جهدا لعرقلة أي خطوة في هذا الاتجاه حيث منع مجلس الدولة من الانعقاد في 14 نوفمبر الماضي لمناقشة ملف توحد السلطة التنفيذية، ومنع المشري وصالح من الاجتماع في الزنتان الأسبوع الماضي، وجنّد علاقاته الإقليمية والدولية لإفشال أي خطة لاستبعاده من السلطة رغم انتهاء ولايته القانونية وفقدانه للشرعية الدستورية والقانونية بحجب ثقة البرلمان عنه وعن حكومته.

في الأثناء، كان المجلس الرئاسي يبحث عن مخرج من حالة الضعف التي يعانيها أداؤه منذ وصوله إلى الحكم، وكان رئيسه محمد المنفي يبحث عن جدار يستند إليه وهو يعلم أن هناك محاولات جادة للإطاحة به، إلى أن أشار عليه المبعوث الدولي عبدالله باتيلي بأن يكون ثالث الثلاثة في سياق النشاط التشاوري حول القاعدة الدستورية، وذلك ضمن مبادرة تم الإعلان عنها بالفعل، وهي تهدف إلى التهيئة لحوار دستوري كأولوية لإنهاء المراحل الانتقالية، تضمّن فيه المبادرات والأفكار والرؤى التي طرحتها الأحزاب والقوى الوطنية على المجلس الرئاسي، وتعد مقاربة لتجاوز الانسداد السياسي وتحقيق التوافق الوطني.

هناك من يرى أن هذه المبادرة قد تكون منطلقا لمواجهة جديدة غير محسوبة العواقب، لاسيما أن البعض يحاول أن يدفع بالمجلس الرئاسي إلى التجرؤ واستصدار مرسوم بحل مجلسي النواب والدولة المتهمين بالعمل على إدامة الأزمة للبقاء في الحكم والاستفادة من امتيازاته، والمنعوتين بالتحول إلى عبء ثقيل على المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد.

معطيات الواقع تؤكد أن حل المجلسين غير ممكن في ظل حالة الانقسام الحكومي والسياسي والعسكري، ومن ذلك أن حل مجلس النواب بقرار من طرابلس مثلا لن يكون له تأثير في بنغازي، ولن يجد من ينفذه على أرض الواقع، كما أن عقيلة صالح سيتحول إلى بطل قبلي وجهوي وسيتحصن بقبائل برقة وبقوة الجيش هناك ليواصل مهامه كرئيس برلمان، وربما يتحول إلى رئيس للإقليم الشرقي بانتخابات تنتظم في سياق تقسيمي ليس لسلطات العاصمة أي قدرة على قمعه.

ورغم أن قائد الجيش خليفة حفتر لا يثق كثيرا في عقيلة صالح، إلا أنه من غير الوارد أن يتخلى عنه، فأحيانا توجد تحالفات هي أقرب إلى الشر الذي لا بد منه، كما أن صالح لا يستطيع تحدي حفتر في الملفات المصيرية، ومنها موضوع القاعدة الدستورية التي يحاول خالد المشري ومن ورائه التيارات المتشددة في غرب البلاد تضمينها مواد تمنع العسكريين وأصحاب الجنسيات المزدوجة من الترشح للاستحقاق الرئاسي، في إشارة مفضوحة إلى حفتر الذي رفع صوته عاليا قبل أيام، وأعلن من مدينة أجدابيا أن لا أحد يستطيع حرمانه من خوض السباق مهما كان الثمن ومهما كانت الظروف.

في مهمة البحث عن موارد لحكومته
في مهمة البحث عن موارد لحكومته

وبينما لا يزال فتحي باشاغا يبحث عن موارد لحكومته الحائزة على ثقة البرلمان وغير المعترف بها دوليا والتي تبسط نفوذها من وراء سلطة الجيش في شرق وجنوب ووسط البلاد، يشكو عبدالحميد الدبيبة من العزلة السياسية التي يعاني منها بعد أن أصبح أمره مكشوفا للمجتمع الدولي، وبات هناك إجماع على أنه لا يعدو أن يكون تاجرا مهووسا بالحكم ودكتاتورا ناشئا يعتقد أنه أذكى من الجميع وأنه بحديثه الدائم عن الانتخابات يمكن أن يقنع الليبيين والعالم بأنه حريص بالفعل على المسار الانتقالي والمشروع الديمقراطي والتداول السلمي على السلطة، وبأنه مهتم بشؤون البلاد والعباد كما تفرض عليه طبيعة المسؤولية التي تولاها بشروط كان أول من داسها وبقوانين كان أول من خرقها.

 عندما أعلن في طرابلس عن استئناف الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا لنشاطها المعلق منذ 2017، أدرك مجلس النواب أنه مستهدف في قوانينه وقراراته لاسيما أن حوالي 30 طعنا تم تقديمها إلى الدائرة منها ما يتعلق بقانوني الانتخابات التشريعية والرئاسية وبالتعديل الدستوري وحتى بشرعية المجلس نفسه، ومن الطبيعي أن يتجه البرلمان إلى تحصين نفسه، فكان أن أعلن قبل أيام التصديق على قانون إنشاء محكمة دستورية ببنغازي مقابل حلّ الدائرة الدستورية بطرابلس، وهو ما رفضه مجلس الدولة الذي قرر تعليق اتصالاته مع البرلمان وتعليق نشاط اللجان المشتركة بين المجلسين، ما يعني أن أي توافقات كانت قد حصلت بين رئيسيهما حول تقاسم السلطة قد ذهبت أدراج الرياح فعلا.

الحقيقة لم يعد هناك من يأبه بتلك اللقاءات والاجتماعات والحوارات والمشاورات والتوافقات والتفاهمات والخلافات التي تنعقد في الداخل والخارج، والتي تدار من قبل الليبيين أو من غيرهم، لأن النتيجة في كل الحالات أصبحت شبه مؤكدة، وهي الاتفاق على عدم الاتفاق بما يضمن استمرار مصالح وامتيازات متصدري المشهد سواء في غرب أو شرق البلاد، وطالما أن هناك عشرات الملايين من الدولارات تصل إلى خزينة الدولة كل صباح من إيرادات النفط والغاز، فإن الصراع عليها سيبقى قائما في ظل ضبابية الموقف الدولي الذي قد يكون بلغ فعلا مرحلة العجز عن التوصل إلى طريقة للتفاهم مع الفاعلين الأساسيين في المشهد الليبي، وهو ما أشارت إليه بوضوح المستشارة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني وليامز التي عايشت كل ما كان يدور في كواليس السياسة الليبية داخل “المرابيع”.

في كل يوم يظهر مليونير جديد في ليبيا، هذا ما قاله المبعوث الأممي السابق غسان سلامة في إشارة إلى اتساع ظاهرة الفساد ونهب المال العام بشكل غير مسبوق في البلاد ومحيطها، وفي كل يوم يظهر ساع جديد إلى الصراع على السلطة وراغب في الوصول إلى الكرسي، وترتفع أصوات الطامحين إلى البقاء في مواقعهم كأعضاء مجلس الدولة المنتخبين منذ أكثر من عشر سنوات، وأعضاء مجلس النواب المنتخبين منذ أكثر من ثماني سنوات، وحكومة الوحدة التي جاءت إلى السلطة وفق اتفاق على أن تستمر في الحكم 18 شهرا، لكن رئيسها والمحيطين به يرغبون في الاستمرار  في التمتع بالحكم وامتيازاته إلى ما لا نهاية، وحتى أمراء الحرب وقادة الميليشيات استفادوا من هذه الوضعية ولا يزالون متمسكين بالسلاح أداة للسيطرة والنفوذ منذ 2011، ومن الطبيعي أن يحافظ الفاسدون واللصوص على مصالحهم، ويستفيد الأبناء من مواقع الآباء، وتتسع دائرة اللاعبين وعدد الكراسي التي يتم إيجادها لإرضاء رغبات المتصارعين على السلطة والثروة، إلى أن أصبح الصراع ذاته لعبة توافقية بين أصحاب المصلحة في ديمومته بشكل قد يكون أقرب إلى العبث.. بل هو العبث ذاته.

9