لطيفة لبصير تدمج بين النقد والإبداع في رحلة واحدة

كاتبة مغربية تتميز بأسلوب سردي يجمع بين الواقعية النفسية والبناء السردي السلس، حيث تركز على عوالم الشخصية الداخلية.
الأحد 2024/11/24
تتمتع بنظرة مستقبلية إلى الأدب النسائي

الرباط- يتميز أسلوب لطيفة لبصير الأدبي بالعمق النفسي والقدرة الفائقة على التلاعب بالصور الأدبية واللغة الرمزية، فهي تخلق فضاءات مليئة بالتوتر الداخلي، حيث تتأرجح الشخصيات بين رغباتها وألمها، وهذا يظهر جليا في قصصها التي تعكس أبعادا نفسية وجوانب من الوجود الإنساني.

في قصتها “يحدث في تلك الغرفة” مثلا تشتغل على فكرة العزلة والانتظار، وهي قضية وجودية تشغل الأدب المعاصر، وتركز على الشخصيات العالقة بين ماضيها وآمالها، بينما تظل تتأمل في مسارات حياتها بشكل يعكس مأساوية الداخل البشري.

الواقعية النفسية

بوكس

تسعى لبصير من خلال شخصياتها دائما إلى الكشف عن الطبيعة البشرية في أقصى أبعادها، حتى في الأوضاع التي قد تبدو تافهة أو بسيطة، فهي قادرة على تحويل كل حالة إنسانية إلى حالة أدبية ذات بُعد نفسي وفلسفي، كما تعمد إلى بناء الشخصيات التي تحمل ملامح معقدة وأحيانا متناقضة، تارة تظهر بوجه إنساني حساس، وأخرى بوجه قاس يحمل خيبة الأمل أو الخوف من المجهول.

تبرز لبصير في النقد الأدبي كمحكمة تلتزم بمنهجية واضحة ورؤية فاحصة للأعمال الأدبية، تدمج بين النقد والإبداع في رحلة أدبية ونقدية واحدة، وهذا المزج بين الفعل الإبداعي والنقدي يعطي لكتاباتها تميزا نابعا من تجربتها الأكاديمية والنقدية الغنية، ويظهر من خلال أعمالها النقدية، مثل “سيرهن الذاتية، الجنس الملتبس”، التي تقدم قراءة تحليلية جادة للعلاقات المعقدة بين السيرة الذاتية النسائية والفن الأدبي.

كتب

وتتمتع رؤية هذه الأديبة المغربية بنظرة مستقبلية حول الحضور الأدبي النسائي في المشهد الثقافي العربي، حيث ترى أن الأدب النسائي هو جزء لا يتجزأ من التجربة الإنسانية، وأن للمرأة القدرة على التعبير عن آلامها وتطلعاتها بطرق فريدة، فالكتابة النسائية بالنسبة إليها تحمل في طياتها خصوصية ذات أبعاد ثقافية واجتماعية معقولة تجعلها مهتمة بحياة الإنسان العربي بشكل خاص، كما ترى أن الكتابة النسائية تختلف في الملامح والأسلوب عن الكتابة الرجالية، فكل واحدة تنبثق من عالم خاص بتجارب النساء وآمالهن، لاسيما في التفاعل مع قضايا السجن، الوطن، الهوية والحرية.

تتميز البصير بأسلوب سردي يجمع بين الواقعية النفسية والبناء السردي السلس، حيث تركز على تطور الشخصية الداخلية ومشاعرها المتقلبة بأسلوب استبطاني عميق يمنح القارئ فرصة للتفاعل مع تجارب الشخصيات في أبعادها المختلفة، إذ تستند كتابتها إلى استكشاف المشاعر المكبوتة والكشف عن دوافع الشخصيات عبر مشاهد حياتية مشبعة بالرمزية، وتتأرجح لغتها بين الرقة والقوة، متنقلة بسلاسة بين عبارات مؤثرة تترك أثرا عاطفيا عميقا لدى القارئ، بينما تُظهر دقة فنية واضحة في اختيار الكلمات التي تعكس الصور الذهنية بوضوح.

كما تتفوق الكاتبة في تناول الصراع النفسي وتقديمه بأسلوب فني رفيع يُبرز التوترات الداخلية التي تواجهها الشخصيات، وهذا يجعل النصوص وسيلة لفهم الذات الإنسانية وعلاقتها بالآخرين، ويضفي على الرواية عمقا فكريا وجاذبية متجددة.

الاعتراف بالأدب النسائي

تُتقن لبصير في أسلوبها السردي دمج الشخصيات مع محيطها الاجتماعي والثقافي، مدركة أن هذه الشخصيات لا تعيش في فراغ، بل تنبثق من سياقات اجتماعية معقدة تؤثر في تصرفاتها وتوجهاتها، من خلال هذه التداخلات كمرآة تعكس التحديات الاجتماعية التي تواجه الشخصيات، وكيف تتعامل مع التوقعات والضغوط الثقافية.

◄ لبصير تسعى من خلال شخصياتها دائما إلى الكشف عن الطبيعة البشرية في أقصى أبعادها، حتى في الأوضاع التي قد تبدو تافهة أو بسيطة

ويُضيف هذا التفاعل بين الشخصية والسياق الاجتماعي بعدا إضافيا للنص، حيث تعالج الأحداث ضمن سياق أوسع يشمل قضايا اجتماعية وثقافية، بينما تعتمد الكاتبة غالبا على الرمزية لتوصيل الرسائل العميقة والمعقدة في رواياتها، وتأتي الرمزية كأداة زخرفية وكجزء أساسي من البناء السردي الذي يساهم في نقل المعاني المجردة وتحليل الشخصيات، وتُبرز الرموز التي تملأ النصوص قضايا مثل الحرية، الهوية والصراع بين التقاليد والحداثة، بينما تُجسّد الرمزية في أعمالها عوالم داخلية تحيل إلى أبعاد اجتماعية ونفسية مؤثرة.

وتبرز لطيفة لبصير في كتاباتها تمازجا متقنا بين عمق الفلسفة النفسية ورؤى الفن التشكيلي، الذي يمنح أعمالها طابعا فريدا يجمع بين التحليل العميق والجماليات الفنية، إذ تُظهر كتاباتها توجها دؤوبا نحو تعزيز الاعتراف بالأدب النسائي ومنحه التقدير الذي يستحقه على المستويين المحلي والعالمي،  بينما تعطي أهمية خاصة لاختيار العناوين لأعمالها الأدبية، معتبرة إياها جزءا لا يتجزأ من العمل نفسه.

ترى أن العنوان لا يقتصر على كونه مجرد تسمية للعمل، بل هو بمثابة المفتاح الذي يفتح أمام القارئ أبعادا معرفية وعاطفية متعددة. هذه العلاقة الديناميكية بين العنوان والمحتوى تتجلى بوضوح في مجموعتها القصصية “أخاف من…”، حيث ينعكس الخوف من الموت، وهو شعور يسكن الشخصيات ويحدد مسار السرد، إذ يظهر ذلك في قدرتها على تجسيد القلق الوجودي عبر العنوان الذي يشير إلى مسألة إنسانية شديدة الحساسية.

تجربة متعددة

◄ من أعماق الشخصيات يبدأ السرد (لوحة للفنانة آني كوركديجيان)
من أعماق الشخصيات يبدأ السرد (لوحة للفنانة آني كوركديجيان)

تؤمن لبصير بأن القراءة تشكل عنصرا أساسيا في بناء الكاتب المبدع، فهي ترى أن الإبداع لا يمكن أن يتحقق دون أن يكون الكاتب قارئا متميزا، إذ تتنوع قراءتها بين الأدب، النقد، الفلسفة والفن، وهذا يعكس اهتماماتها المتعددة ورغبتها المستمرة في توسيع آفاق معرفتها، وتجد في علم النفس مجالا خصبا لفهم الشخصيات وتحليل دوافعهم النفسية، حيث تأثرت بأعمال علماء مثل فرويد ولاكان، اللذين يعتبران مرجعا رئيسيا في تفسير أعماق النفس البشرية كما الحال في روايتها الأخيرة “طيف سبيبة”.

ويظهر هذا الفهم النفسي للشخصيات في كتاباتها من خلال عمق التحليل النفسي والرمزية التي تختزلها نصوصها، حيث إن تفكيك الشخصيات وتحليل ما وراء سلوكياتها يعد جزءا من أسلوبها الذي يميز أعمالها عن غيرها، وتعكس تلك الأعمال الفنية في كتاباتها التصورات المعقدة للوجود الإنساني، فهذه العلاقة بين الأدب والفن تجعل من كتاباتها تزاوجا بين الكلمات والصور، وتساهم في تشكيل رؤاها الأدبية بطريقة تثير التفكير وتدفع القارئ إلى استكشاف معان أعمق في النص.

◄ العلاقة بين الأدب والفن تجعل من كتابات لطيفة لبصير تزاوجا مدروسا بين الكلمات والصور بطريقة تثير التفكير

تعتبر تجربة الأكاديمية لطيفة لبصير الأدبية شاملة ومتعددة الأبعاد، فقد شاركت في العديد من الندوات والمهرجانات الأدبية على الصعيدين المحلي والدولي، كما حاضرت في مراكز ثقافية مرموقة مثل مركز الشيخ إبراهيم بالبحرين ومركز الشيخ زايد بأبوظبي ولقاء سان نازير في فرنسا، كما قدمت برنامج “الصالون الثقافي” في قناة الدوتشيه فيله الألمانية بشراكة مع قناة المغربية، وترأست العديد من اللجان في القصة القصيرة والسرد.

قدمت لبصير مجموعة متنوعة من الأعمال الأدبية التي تتناول قضايا اجتماعية وإنسانية. من أبرز أعمالها “كوفيد الصغير”، مجموعة قصصية صدرت عن المركز الثقافي للكتاب، وقدّمت  أيضا عدة مجموعات قصصية، منها “رغبة فقط”، “ضفائر”، و”أخاف من…”، بالإضافة إلى مجموعات “عناق”، “محكيات نسائية لها طعم النارنج” و”يحدث في تلك الغرفة” التي نالت جائزة القراء الشباب للكتاب المغربي. كما ترجمت مختاراتها القصصية “وردة زرقاء” إلى اللغة الفرنسية، وصدر لها كتاب “الجنس الملتبس/ السيرة الذاتية النسائية” الذي يعكس رؤيتها الفريدة للعلاقة بين الجنس والهوية.

وآخر أعمال لطيفة لبصير هو رواية “طيف سبيبة” التي تتناول مرض التوحد كموضوع رئيسي، مسلطة الضوء على التحديات التي يواجهها الأفراد المصابون بهذا المرض وعائلاتهم في مجتمع لا يزال يتعامل مع هذه القضية بنظرة مختلفة، وكتاب “الحياة ليست دائما رقمية”، الذي تتناول فيه تأثير الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي على حياتنا اليومية، الذي صدر مؤخرا بمعرض الشارقة للكتاب وكان المغرب ضيف شرف لهذا المعرض، ومن خلال هذا الكتاب تطرح لبصير تساؤلات مهمة حول التغيرات التي أحدثتها التقنيات الحديثة في تفاعلاتنا الاجتماعية، وكيفية تأثير هذه التحولات على الهوية الإنسانية والعلاقات بين الأفراد.

◄ الرمزية لدى لبصير أداة زخرفية وجزء أساسي من البناء السردي الذي يساهم في نقل المعاني المجردة وتحليل الشخصيات
الرمزية لدى لبصير أداة زخرفية وجزء أساسي من البناء السردي الذي يساهم في نقل المعاني المجردة وتحليل الشخصيات

 

8