لطفية الدليمي كاتبة خيال يصل إلى حياة مجاورة

ما من امرأة عراقية وهبت نفسها بغزارة نتاجها ومستواه الرفيع للكتابة مثلما فعلت ولا تزال تفعل لطفية الدليمي. وإذا كان "عالم النساء الوحيدات" الكتاب الذي فتح أمامها أبواب الشهرة، كونه قد ترجم إلى اللغة الصينية وهو ما لا يحلم به كاتب عراقي فإن بداياتها تعود إلى محاولة النظر إلى الرجل باعتباره شريك حياة في كتابها الأول "ممر إلى أحزان الرجال". لذلك فإن النظر إليها كونها كاتبة نسوية يخطئ الطريق إلى حقيقة هدفها من الكتابة.
الدليمي واحدة من قلة من كتاب القصة والرواية العراقيين أولت اللغة اهتماما لافتا، فكانت لغتها صافية، متوهجة تتسابق جملها مأخوذة بسحر التركيب اللغوي الذي حرصت الكاتبة على تجديده في كل محاولة جديدة، حتى ليظن المرء أنه يقرأ نثرا مركّزا. فاللغة في ما تكتب ليست وسيلة لحمل تعبير ما بل هي التعبير في حد ذاته ومن داخله.
قاصة وروائية وكاتبة مقال ومترجمة. يعجب المرء أحيانا كيف يمكن أن تجد وقتا للكتابة المنتظمة للصحف والمجلات وهي تكتب وتترجم روايات وكتبا منفتحة على المعرفة المعاصرة في كل جوانبها، ناهيك عن أن الجمع بين الكتابة الروائية والترجمة هو في حد ذاته عمل شاق يتطلب موهبة لا يملكها الكثيرون.
ولأن الدليمي مثقفة من طراز عالٍ فقد حرصت على انتقاء ما تترجم لكي يكون نافعا على مستوى الانفتاح على آخر مستجدات المعرفة في العالم. إنسانة تقف عند مستوى الدهشة وهو ما كانت عليه الكتب التي ترجمتها. فهي تكشف عما يحتاجه المثقف لكي يكون معاصرا.
اللغة في لمعانها
وإذا ما استبعدنا النبرة النسوية في أدبها فإن ذلك لا يعني أنها لم تهتم بقضايا النساء في بلدها والعالم. كانت ناشطة نسوية أينما وجدت لذلك سبيلا، وهي مدافعة شرسة عن حقوق المرأة وحرياتها بالرغم من أنها تحاشت الشكل النقابي لكي لا تظهر في صورة تناقض صورتها في إطار أدبي. كما أنها لم تكن تملك الوقت لذلك.
اخترعت الدليمي عالما أدبيا مجاورا تقيم فيه اللغة باعتبارها كائنا حيا لا يقف عند حدود الانفعال بل يخترقه في محاولة للوصول إلى جوهره. وهي في ذلك استفادت كثيرا من لغة المتصوفة الذين تعاملت معهم كونهم سحرة تخرج اللغة من بين أصابعهم كما لو أنها لم تكن موجودة من قبل.
◙ الدليمي مثقفة من طراز عال. حرصت على انتقاء ما تترجم لكي يكون نافعا على مستوى الانفتاح على آخر مستجدات المعرفة في العالم
ولدت في محافظة ديالى عام 1939. درست اللغة العربية في كلية الآداب، جامعة بغداد. عملت بعد تخرجها في مجال تدريس اللغة العربية ثم انتقلت إلى العمل في مجلتَيْ "الطليعة الأدبية" و"الثقافة الأجنبية". عام 1992 أسست مع مجموعة من المثقفات العراقيات منتدى المرأة الثقافي في بغداد. إضافة إلى أنها أسست مركز "شبعاد" لدراسات حرية المرأة عام 2004 كانت عضوا مؤسسا لعدد من الجمعيات الثقافية.
عام 1970 أصدرت كتابها القصصي الأول "ممر إلى أحزان الرجال". وفي عام 1986 أصدرت روايتها الأولى "عالم النساء الوحيدات"، وما بينهما وبعدهما أصدرت أكثر من عشرين كتابا توزعت بين القصة القصيرة والرواية واليوميات. كما ألفت أكثر من خمس مسرحيات، من بينها "الليالي السومرية" و"الشبيه الأخير" و"قمر أور".
ترجمت ما يقارب العشرين كتابا بين الرواية والدراسات الإنسانية ومن أهمّها "بلاد الثلوج" لكواباتا و"ضوء نهار مشرق "لأنيتا ديساي و"من يوميات أناييس نن".
كتبت سيناريو "صدى حضارة" عن الموسيقى في الحضارة الرافدينية. نالت جائزة أفضل نص يستلهم التراث السومري عن مسرحيتها "الليالي السومرية". ولم يثنها كل هذا النتاج الأدبي الغزير عن نشر مقالاتها في العديد من الصحف والمجلات العربية.
بين الأجناس
لم تصدر الدليمي كتابا إلا ودار حول مضامينه وأسلوبه نقاش كثير. ربما لأنها نجحت في أن تلتقط من عمق موضوعاتها ذات الخصوصية العراقية بعدا إنسانيا نجا بكتاباتها من الطابع المحلي وربما لأنها كانت تُسحر قراءها بلغتها الناعمة والشائكة، المنسابة والمتفجرة في الوقت نفسه.
كانت قصصها وروايتها تتضمن حكاية للجميع قد لا يهتدي إلى ألغازها إلا قلة من القراء. لذلك يمكن القول إن الدليمي لم تكتب لتروي الحكاية التي تجذب وتشد القراء العاديين إلى أجوائها فحسب بل كانت أيضا تطرح أسئلة وجودية تتفاعل مع مشكلات مصيرية تقع في جوهر المجتمع.
وفي ذلك تكون لطفية قد أصابت عصفورين بحجر واحد كما يُقال؛ لم تخسر الحكاية التي لا تقوم الرواية من غيرها كما أنها عرفت كيف تستلهم من الحكاية مادة فكرية، ستكون بمثابة البذرة الفلسفية التي تنمو منها شجرة المعرفة.
وإذا ما كانت قد استحضرت بيتا مشهورا للمتنبي يقول فيه "على قلق كأن الريح تحتي، أوجّهها جنوبا أو شمالا" في إشارة إلى تجربتها في المنفى بعد الاحتلال الأميركي عام 2003 فإن ذلك البيت هو في حقيقته هو شرط وجود بالنسبة إلى كل ما فعلته في مجال الكتابة.
لقد حملتها رياح الكتابة في اتجاهات مختلفة جعلتها تقف ضد الأفكار الجاهزة والفرص المعلبة. في كل ما كتبته كانت متمردة لا ضد الواقع وحده بل وأيضا ضد لغة ذلك الواقع وسبل تفكيره وفلسفته.
بمعنى أن الكاتبة كانت دائما منفية في الواقع واللغة. وهي إذ تحرض اللغة من الداخل فإنها في الأصل تنطلق من نفي الواقع المعيش انحيازا إلى واقع متخيل هو ذلك الواقع الذي تقيم فيه حكاياتها التي هي جزء من حياة مجاورة أقامتها لقراء متخيلين.
واقع يتشبه بالخيال
تقول الدليمي "الخاصية الميتافيزيقية التي تميز عقل الروائي هي فضيلة كبرى"، وتضيف "الميتافيزيقيا هي تثوير لنطاق الرؤية وتفجير للممكنات البشرية التي ما كانت متاحة لولا هذا الحس الميتافيزيقي الجميل، المتعالي على الوقائع المادية المشخصة".
ذلك تلخيص لأوهام الكتابة. كانت الدليمي دائما داعية كتابة مختلفة؛ كتابة تقيم تحت اللغة لتحفر بحثا عن أوهامها في خلق عالم سيكون أجمل من خلالها. ذلك هدفها من الكتابة وهو ما يشدها إلى عالم لا مرئي، فوق واقعي غير أنه يتكون من شذرات من الواقع، تتعامل معها كما لو أنها جزء من سمفونية سيكون من الصعب إحالتها إلى زمن بعينه.
في كل ما كتبت ترتفع الدليمي بالمكان من وجوده الثابت لتعبث به بقوة الزمن المتغير؛ إنه صناعتها. وهي حين تحوله إلى وهم يمكن رؤيته بطريقة حلمية إنما تخضعه لقوة زمن تنبعث من مكان خفي.
لطفية الدليمي مهدت لولادة رواية عراقية جديدة تستند إلى واقع هو في حقيقته صناعة ميتافيزيقية.