لبنان وأسئلة الدولة المؤجلة وسلاح حزب الله

بناء دولة لبنانية قوية لا يقتضي فقط تسليم السلاح، وإنما تحرير الخيال السياسي من قبضة الانقسام الهوياتي، وإعادة هيكلة مفهوم الوطنية.
الأحد 2025/06/29
كيف سيتخلص لبنان من نفوذ الحزب

منذ انتخاب جوزيف عون رئيساً للجمهورية اللبنانية في كانون الثاني الماضي، بعد عام ونصف العام من الفراغ، بدا أن العنوان الأول لعهده لا يتركز بشكل منفرد على استعادة انتظام المؤسسات، وإنما ترسيخ منطق الدولة في بلد طالما عانى من ازدواجية القرار ومصادرة السيادة. وهذا ما كشفه في الخطاب الرئاسي بالإشارة إلى حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية والمؤسسات الشرعية، باعتباره شرطاً جوهرياً لإعادة بناء الجمهورية على أسس السيادة والاستقرار.

الآن؛ وفي لحظة إقليمية بالغة الحساسية، بعد إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مساء الثالث والعشرين من يونيو الجاري عن وقف التصعيد العسكري بين إيران وإسرائيل، إثر سلسلة ضربات متبادلة خلال مدة قاربت الأسبوعين وكادت تجرّ المنطقة إلى مواجهة مفتوحة.

وفيما يُعدّ هذا الإعلان محطة سياسية مفصلية، تكتسب الجبهة اللبنانية أهمية مزدوجة؛ من جهة، لأنها كانت إحدى ساحات التوتر غير المباشر طوال الأشهر الماضية، ومن جهة ثانية، لأنها ما تزال تخضع لمعادلة قوة خارج سلطة الدولة الرسمية. لذا فإن هذه اللحظة السياسية تأتي لتُعيد طرح سؤال السيادة في لبنان؛ فهل يمكن أن تكون استعادة القرار الوطني جزءاً من مناخ إقليمي يميل نحو التهدئة، وهل يُتاح للبنان أن يتحوّل من ساحة لصراعات الآخرين إلى كيان يُعاد بناؤه على منطق الدولة، وليس منطق الفصائل؟

◄ ما تمكن المراهنة عليه في مسألة تسليم سلاح حزب الله؛ هو تثبيت أولوية مشروع الدولة في الوعي الجمعي، وتطوير خطاب وطني عقلاني يبتعد عن الثنائيات المدمرة

في ضوء هذه المستجدات، تتجاوز مسألة سلاح الحزب بُعدها المحلي، لتغدو اختباراً لمدى قدرة الدولة اللبنانية على الانتقال من منطق “توازن الفصائل” إلى منطق “احتكار العنف المشروع”، ليس من موقع التصادم، وإنما من موقع إعادة ترتيب الداخل بما يخدم مشروع السيادة والاستقرار.

لم تكن مشكلة لبنان في وجود فصيل مسلح خارج الدولة فحسب، بقدر ما كانت تتأثر الدولة في تحوّل هذا الواقع إلى قاعدة مؤسسة لمنطق الدولة نفسها. فحين يصبح “الاستثناء” هو القاعدة، يتهدم عقد الدولة الحديثة القائم على احتكار العنف المشروع، وتُستبدل السيادة المتخيلة للجمهورية بمنطق مزدوج؛ دولة في الشكل، ومجال نفوذ متداخل مع مصالح إقليمية في المضمون.

في قلب هذه المشهدية، تتراءى مسألة سلاح “حزب الله” كرمز مركزي لانقسام بنيوي في الرؤية إلى الدولة نفسها، وإلى من له الحق في احتكار العنف، وإلى موقع لبنان من صراعات الإقليم المتشابكة.

تكمن معضلة السلاح في كونه تجاوز منذ زمن بعيد حدود “الردع الدفاعي”، ليتحول إلى عنصر تأسيسي في معادلة الحكم وفي تشكيل الهوية السياسية لدى شريحة واسعة من اللبنانيين. وهذا ما يجعل من الحديث عن نزع السلاح أو “دمجه” ضمن مؤسسات الدولة مسألة لا تتعلق فقط بترتيبات أمنية أو توافقات سياسية، وإنما بعملية إعادة تعريف لمفهوم الدولة ذاتها، ولدورها في الإقليم.

إذا كانت معادلة “السلاح مقابل الردع” قد شكلت لعقود أحد مرتكزات التوازن الداخلي في لبنان، فإن الشهور الأخيرة كشفت عن تصدّعات كبيرة في هذا التوازن، بفعل الضربات المتكررة التي تلقاها الحزب، لاسيما في الجنوب اللبناني. فخسارة عدد من قياداته العسكرية البارزة، وتدمير جزء من بنيته الصاروخية وشبكاته اللوجستية، لم تمس فقط قدرته العملياتية، بل أصابت أيضاً “هيبة الردع” التي طالما تمسك بها.

ويُلاحظ بالتوازي، أن مكانة الحزب داخل بيئته الاجتماعية تمر بتحوّلات خفية لكنها متزايدة، بفعل الأثمان التي دُفعت، والفراغات التي أحدثها غياب القيادات، ما يفتح أسئلة صامتة حول الكلفة المجتمعية للمسار القائم، وحول احتمالات انزياحات بطيئة في علاقة الحزب بجمهوره التقليدي، وإن لم تتبلور بعد سياسياً.

وما يزيد من حساسية هذا التراجع أنه يأتي في سياق إقليمي يشهد تآكلاً تدريجياً في فاعلية الأذرع الإيرانية، نتيجة تصاعد العمليات الإسرائيلية، وتبدّل أولويات المحور الإيراني الذي يواجه بدوره أزمات داخلية وضغوطاً دولية متزايدة.

◄ الرهان على الدولة هو خيار وجودي لمستقبل لبنان ككيان قابل للاستمرار

كل ذلك يجعل من السؤال عن مستقبل “سلاح الحزب” أكثر من مجرد مطلب سياسي داخلي؛ إنه تحوّل في موازين القوة، يفتح هامشاً جديداً؛ ولو ضيقاً، لإعادة التفاوض حول وظيفة هذا السلاح، وموقعه من مشروع الدولة اللبنانية.

لم يكن حضور السلاح خارج سلطة الدولة اللبنانية استثناءً طارئاً، فهو نتيجة لمسار تاريخي تراكمي بدأ يتبلور بوضوح منذ اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية دون أن يُنهِ منطق السلاح الموازي. فقد نصّ الاتفاق صراحة على حلّ جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها، باعتباره شرطاً مركزياً للانتقال إلى الدولة الواحدة ذات السيادة. إلا أن الاتفاق لم يُحدّد موقفاً واضحاً من الجماعات التي كانت ترفع شعار مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، ما فتح الباب لاحقاً لتفسير سياسي استُخدم لإبقاء سلاح “المقاومة” خارج معادلة الحل، بذريعة وظيفته التحريرية. هذا الاستثناء غير المُعلن في النص، لكنه المُعتمد فعلياً في السياسة، هو ما أسّس لبذرة الازدواجية التي ستتمدد لاحقاً في بنية الدولة اللبنانية وتُعيد إنتاج مفارقة السلاح الشرعي وغير الشرعي تحت سقف جمهورية واحدة.

ثم جاء الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب عام 2000، ليُعيد تعريف موقع السلاح من كونه مشروع تحرير، إلى مشروع تثبيت نفوذ داخلي. ومع حرب تموز 2006، انتقل السلاح إلى مرتبة أكثر حساسية؛ صار رمزاً للسيادة البديلة، ومركز ثقل في ميزان القوة السياسي، لاسيما في ظل بنية طائفية تُعيد إنتاج نفسها عبر أدوات القوة وخارج أيّ أطر مؤسسية وطنية.

هذا السياق التاريخي يُظهر أن معضلة السلاح ليست مسألة راهنة بقدر ما هي امتداد لصياغات غير مكتملة للسيادة منذ ولادة الجمهورية الثانية، ما يجعل أيّ مقاربة جدية لنزع السلاح رهينة لتفكيك تلك العقد التاريخية.

وبموازاة هذه الجدلية التاريخية، لا يمكن إغفال موقع القوى المسيحية، ولاسيما المارونية منها، في معادلة السلاح. فكون رئيس الجمهورية مارونياً، وتحديداً في ظل التحوّلات التي أصابت التحالفات التقليدية، يعيد إلى الواجهة موقع الكتل المسيحية من هذا السلاح، بين خطاب “التيار الوطني الحرّ” الذي لطالما برّر بقاءه تحت عنوان التفاهم مع الحزب، وخطاب “القوات اللبنانية” الذي يصرّ على نزع هذا السلاح بوصفه شرطاً لتوازن الدولة. هذا الانقسام الماروني نفسه يُعبّر عن التصدع داخل البنية المسيحية تجاه وظيفة الدولة، بين من يراها ملحقاً توافقيّاً، ومن يطمح لاستعادتها كمركز سيادي مستقل.

◄ مشكلة لبنان لم تكن في وجود فصيل مسلح خارج الدولة فحسب، بقدر ما كانت تتأثر الدولة في تحوّل هذا الواقع إلى قاعدة مؤسسة لمنطق الدولة نفسها

ومن هنا؛ فلا يمكن الحديث عن “نزع سلاح الحزب” خارج سياقين متداخلين؛ الأول متمثلاً بالسياق الداخلي المتعلق بإعادة إنتاج الدولة ومؤسساتها الوطنية بعيداً عن منطق المحاصصة والانقسام العمودي، بينما يتمحور الثاني حول السياق الإقليمي المرتبط بتوازنات القوى بين إيران وخصومها، والتفاهمات الدولية حول النفوذ في الشرق الأوسط.

من دون تعديل في هذين السياقين، يظل الحديث عن تسليم السلاح أقرب إلى خطاب طوباوي. لكن في المقابل، يمكن تصوّر سيناريوهات تدريجية غير صدامية؛ تُبنى على قواعد شراكة داخلية حقيقية، تبدأ من إعادة تعريف دور الجيش، وتكريس حيادية الدولة كمرجعية فوق طائفية، ودمج أي بنى قتالية غير رسمية ضمن إستراتيجية وطنية شاملة، تقوم على الأمن الجماعي وليس على توازن الرعب.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الرهان على الدولة هو خيار وجودي لمستقبل لبنان ككيان قابل للاستمرار. فالتجربة أظهرت أن تعدد السلطات، وازدواجية القرار الأمني والسياسي، لا يؤديان إلا إلى المزيد من التآكل في الثقة الداخلية، وانكشاف خارجي دائم أمام تحولات الإقليم.

ما تمكن المراهنة عليه في مسألة تسليم سلاح حزب الله؛ هو تثبيت أولوية مشروع الدولة في الوعي الجمعي، وتطوير خطاب وطني عقلاني يبتعد عن الثنائيات المدمرة؛ مع أو ضد، خيانة أو مقاومة، شرق أو غرب. وحده هذا الخطاب قادر على إعادة تصويب البوصلة، من النقاش حول “سلاح الحزب”، إلى النقاش حول “أيّ دولة نريد؟” وكيف يمكن أن يكون العنف، وكل أدوات القوة، في خدمة هذه الدولة، وليس في خدمة مشروع فوقها أو مضاد لها.

إن بناء دولة لبنانية قوية، لا يقتضي فقط تسليم السلاح، وإنما يتطلب تحرير الخيال السياسي من قبضة الانقسام الهوياتي، وإعادة هيكلة مفهوم الوطنية ليشمل الجميع دون وصاية. وهي مهمة صعبة، لكنها ليست مستحيلة، خصوصاً إذا ما شُرع في بناء توافق داخلي متين يستند إلى أولوية العقد المدني، وحصرية الدولة، واستقلالها عن محاور الخارج.

5