لبنان إن حكى

اللبنانيون كما يُقال طائفيون حتى وإن لم يؤمنوا بطائفيتهم. ذلك كلام قد لا يكون صحيحا ولكن تمكّن طبقة سياسية من البقاء في دائرة الحكم لزمن طويل يهبه نوعا من المصداقية.
الأربعاء 2025/04/30
أحب لبنان بلدا وشعبا

عنوان هذا المقال تمت استعارته من سعيد عقل الذي أصدر عام 1960 كتابا شعريا بالعنوان نفسه.

ولكن الاستعارة هنا ليست في محلها. لذلك عليّ أن أعتذر من الشاعر الذي لم ألتق به سوى مرة واحدة في حياتي.

الاعتذار سببه لبنان الذي وجب عليه الاعتذار منذ سنوات طويلة من الشاعر الذي قال عنه “هنا تحت كل ترابه/ حكايةُ مجد.”

لبنان إن حكى فإنه اليوم لا يجسد لحظة زهوّ ولا يعبّر عن عنفوان حضاري ولا يسر السامعين بفتنة حكاياته وغنج ذكرياته وهو المفتون بمطبخه.

◄ كل ملفات لبنان سيئة وتفوح منها رائحة الفساد. الدولة التي سقطت مع حزب الله فاسدة، اخترق الفساد طبقتها السياسية. كل فرد من تلك الطبقة يستحق أن يُقدّم إلى المحاكمة

كان لبنان دائما خاضعا لتحالفات العوائل السياسية الكبيرة التي تواطأت على أن تبقيه حبيس الطائفية. المريض الذي لن يشفى من علته لأنه مولع بها كما كان يُشاع. يُقال إن اللبنانيين طائفيون حتى وإن لم يؤمنوا بطائفيتهم. ذلك كلام قد لا يكون صحيحا ولكن تمكّن طبقة سياسية من البقاء في دائرة الحكم لزمن طويل يهبه نوعا من المصداقية.

انتهت حرب الطوائف عام 1990. حاول ميشال عون أن يُطيل من أمدها لكنه فشل. قيل يومها انتهت الحرب من غير أن ينتصر أحد. لا غالب ولا مغلوب. ذلك حكم بعيد عن الواقع. انتهت الحرب بانتصار طبقة سياسية فاسدة على الشعب. هذه الطبقة هي التي حكمت لبنان منذ نهاية حربه إلى اللحظة التي اغتالت إسرائيل فيها حسن نصرالله زعيم حزب الله بعد أن قتلت كل معاونيه.

مع انتهاء عصر حزب الله بانت واحدة من أكثر الحقائق فضحا لفساد الطبقة السياسية. كان حزب الله هو حاميها والسد الذي يمنع القضاء من أن يمد يده إليها.

انتهى عصر حزب الله من غير رجعة فاختفت الطبقة السياسية وما تبقى منها لن يدوم بقاؤه طويلا. ذلك لأن بقاءه رهين بالواجبات التي يجب عليه أن ينفذها بناء على تعهدات لبنان الدولية بعد حرب حزب الله الخاسرة.

لنعد إلى حكاية “لبنان إن حكى”.

ما بين سرقة أموال المودعين في البنوك وهو ما يمكن أن يُطلق عليه “حدث في لبنان” لفرادته في التاريخ وبين انفجار مرفأ بيروت الذي كان تفجيرا أثبت القضاء صلته بحزب الله من خلال منفذيه أو المسؤولين عنه الذين كانوا يسيرون في شوارع الضاحية الجنوبية؛ كانت هناك سلسلة تتألف من أكثر أبناء لبنان لمعانا وإخلاصا ووطنية تم اغتيالهم وكان القاتل واحدا. هو نفسه في كل الحالات.

لم يسمّه أحد من قبل. ذلك ليس صحيحا. لقمان سليم كان يدين حزب الله علنا في مقالاته وعلى الشاشات. لذلك تم اغتياله وبطريقة تشير إلى هوية القاتل. اعتبروه خائنا لا لشيء إلا لأنه من عائلة شيعية وقال الحقيقة. ذلك ليس متعارفا عليه في لبنان.

◄ لبنان إن حكى فإنه اليوم لا يجسد لحظة زهوّ ولا يعبّر عن عنفوان حضاري ولا يسر السامعين بفتنة حكاياته وغنج ذكرياته وهو المفتون بمطبخه

ولبنان إن حكى فإنه لن يقول إلا كلاما بذيئا. ما هذا الذي أقوله وأنا أحب لبنان بلدا وشعبا؟ مرت قبل زمن قصير الذكرى الخمسون لاشتعال الحرب الأهلية. خمسون سنة لم ير اللبنانيون سوى البذاءة. لقد انهارت حياتهم واستمرت في الانزلاق إلى الهاوية. حين يلتفت اللبناني الذي يبلغ الآن الخمسين من عمره إلى ماضيه فإنه لن يرى سوى ركام من المآسي والمهازل والأكاذيب والشعارات الزائفة والمرويات التي تتعلق بالاحتلال والتحرير والانتصار والهزيمة وكلها مرويات انضمت إلى الفلكلور كما لو أنها من صناعة حكواتي مأجور.

لبنان اليوم هو في أمسّ الحاجة إلى أن يفتح ملفاته التي كانت مغلقة بقوة السلاح. هو لن يتعافى من مرضه إلا إذا اعترف أنه مريض وفي حاجة إلى العلاج. بعد انفجار مرفأ بيروت زار الرئيس الفرنسي ماكرون بيروت فعلق حسن نصرالله قائلا “عليه أن يمرّ بالضاحية.” يعنى “تعالوا تفاوضوا معنا” وهل في إمكان رئيس الدولة التي تنظر إلى لبنان بطريقة خاصة أن يتحاور مع زعيم ميليشيا في ما يتعلق بمصيره؟ كان ذلك التصريح إعلانا عن استيلاء حزب الله على لبنان.

كل ملفات لبنان سيئة وتفوح منها رائحة الفساد. الدولة التي سقطت مع حزب الله فاسدة، اخترق الفساد طبقتها السياسية. كل فرد من تلك الطبقة يستحق أن يُقدّم إلى المحاكمة لأنه مسؤول بطريقة أو بأخرى عن اختفاء أموال المودعين في المصارف.

لبنان إن حكى فإنه سيقول كلاما جارحا. لكنه لن يتعافى إلا إذا قال ذلك الكلام.

8