لبنانيون في ذكرى اندلاعها الـ46: قذائف الحرب الأهلية أرحم من الجوع

وطأة الانهيار الاقتصادي عادت على الشعب اللبناني بشظايا الفقر والإحباط.
الاثنين 2021/04/12
صيحة جوع

تسود حالة من الاقتناع الممزوج بالإحباط بين معظم اللبنانيين الساخطين على الطبقة السياسية الغارقة في أزماتها التي لا تنتهي بأن شظايا الفقر والجوع والفساد التي طالتهم خلال السنوات الأخيرة أسوأ من شظايا القذائف التي عايشوها خلال الحرب الأهلية التي انتهت قبل ثلاثة عقود من الزمن.

بيروت - يردّد اللبنانيون في جلساتهم وعلى شاشات التلفزيون بحرقة أن ما يشكون منه اليوم تحت وطأة الانهيار الاقتصادي منذ العام 2019 والتدهور الجنوني لليرة والخوف من العوز، لم يشهدوه حتى في أسوأ أيام الحرب الأهلية، التي يحيي لبنان الثلاثاء الذكرى الـ46 لاندلاعها.

ومن بين هؤلاء الخمسينية عبلة باروتا التي اعتادت الاحتماء وعائلتها من القذائف كلّما اشتدت المعارك في ذلك الوقت، لكنها اليوم وفي خضم أسوأ أزمة اقتصادية يشهدها لبنان، تقول إنها لا تعرف كيف تحمي نفسها من الجوع والفقر ومن فساد الزعماء.

وتوضح ربّة المنزل، التي تعافت خلال الأشهر الماضية من إصابة بالغة جراء انفجار مرفأ بيروت القريب من منزلها، لوكالة الصحافة الفرنسية “أثناء الحرب، حين كنا نسمع القصف، كنا نختبئ في المنزل أو الملاجئ. لكن اليوم كيف نختبئ من الجوع؟ من الوضع الاقتصادي؟ من كورونا؟ من زعمائنا؟”.

وتقول “كانت مخاوفنا أن نموت جراء قذيفة أو قناص، لكن اليوم كل شيء يخيفنا، المرض والفقر والجوع”. وتصمت قليلا ثم تضيف بحسرة “أن يموت الفرد جراء قذيفة أفضل، أقله لا يعاني.. بينما نعاني اليوم ونموت ببطء”.

وبدأ النزاع في 13 أبريل 1975 بين أحزاب مسيحية وفصائل فلسطينية ساندتها قوى إسلامية ويسارية لبنانية، وما لبثت أن تورطت فيه قوى إقليمية أبرزها سوريا وإسرائيل.

وانتهت الحرب بعد توقيع اتفاق الطائف العام 1989، وجولة عنف أخيرة انتهت في 1990. وخلفت الحرب وراءها أكثر من 150 ألف قتيل و17 ألف مفقود.

وخلال الحرب تكرّست خطوط تماس طائفية غالبا بين المناطق. ورغم فصول مرعبة من العنف والخطف والاغتيالات والقصف، كانت وتيرة الحياة تستأنف عادية كلما سكتت المدافع كما لم تتوقف العجلة الاقتصادية، بينما كانت الجهات المتصارعة تتلقى دعما وفيرا بالمال والسلاح من الخارج.

وتقاسمت القوى السياسية التي خاضتها السلطة بعد الحرب وفشلت في بناء دولة مؤسسات وقانون وجاء الانهيار الاقتصادي الأخير ليشكّل أسوأ أزمات لبنان ونتج عن سنوات من الإهمال وسوء الإدارة والأزمات السياسية المتتالية وبات معه أكثر من نصف السكان تحت خط الفقر، وفق الأمم المتحدة.

الكل في لبنان متفق على أن ما تعرضوا له في أحلك جولات الحرب يمثل نقطة في بحر مآسي الأزمة الاقتصادية الحالية

وفي منزلها، الذي أعيد ترميم ما تضرّر منه بفعل انفجار الرابع من أغسطس الماضي، والواقع في الطبقة الأولى من مبنى قديم في محلة مار مخايل المتاخمة للمرفأ، تقول عبلة “رغم بشاعة الحرب، كنا مرتاحين. لم نعش مثل هذه الأزمة الاقتصادية والقلق. ماذا سنأكل غدا وماذا سنفعل؟ لا شيء من ذلك كله.. كانت حاجاتنا مؤمنة”. وتضيف الأم لثلاثة أولاد “أحيانا، لا أقوى على النوم خلال الليل” جراء القلق.

وشهدت المتاجر خلال الأسابيع الماضية إشكالات بين زبائن كانوا يتهافتون على سلع مدعومة من الدولة، وبات العثور على أدوية أو حليب للأطفال أشبه برحلة بحث عن كنز مفقود، وهو ما لم يحصل خلال الحرب الأهلية إلا نادرا ولفترة محدودة. وباتت عائلات كثيرة في لبنان تعتاش من مساعدات وإعانات تقدمها جهات مانحة أو حتى أحزاب.

وفي محلة الكرنتينا الملاصقة للمرفأ، يروي جان صليبا مختار المنطقة سابقا قصص عائلات تدمرت منازلها أو تضررت، أو فقدت أفرادا جراء انفجار بيروت. ويقول “لم نر الدولة” منذ الانفجار “ولولا المساعدات المادية والغذائية من الجمعيات، لما كان الناس يقوون على الاستمرار”.

ويتحدث الرجل الستيني بمرارة عن “نكبة جماعية” ألمّت بسكان المنطقة قائلا إن ما تعرضوا له في أحلك جولات الحرب “نقطة في بحر” مآسي الانفجار. حينها “كان الفرد يتوجّه إلى عمله خلال النهار.. وثمة فترات جنى فيها الناس المال. كانت هناك بحبوحة لم تعد موجودة اليوم” في بلد لامست فيه نسبة البطالة عتبة 40 في المئة.

ويقول “أين البحبوحة اليوم ومن قادر على أن يجني المال؟ الأشغال توقّفت واقتصاديا انتهينا. نحن اليوم بلد يعيش على التسول”. وهو نفس رأي جان الذي يعتاش من محل لبيع اللوتو حيث أكد أنه إذا كان “جيل الحرب” صمد بمواجهة القذائف، فإن “الحالة الاقتصادية في ظل.. دولة لا تسأل” عن المواطن هي “ما تخيف” الناس جميعا اليوم.

ورغم كل هذا المشهد المأسوي والنقمة الشعبية على الطبقة السياسية، مازالت القوى السياسية عاجزة عن إيجاد حلول لأزمة أسقطت حكومتين، وقد مضت أشهر على استقالة الثانية، وفاقمها تفشي فايروس كورونا ثم انفجار المرفأ.

وعلى بعد كيلومترات في غرب بيروت، يواظب فيكتور أبوخير منذ العام 1965 على فتح صالونه للحلاقة، رغم أنّه منذ أشهر تمرّ أيام يحضر فيها زبون أو بالكاد اثنان. ويروي كيف أنه تعرّض للخطف خلال الحرب الأهلية وأُطلق الرصاص على محله، لكن ذلك في رأيه كان “أرحم” من تداعيات التدهور الاقتصادي. ويقول “نواجه اليوم الجوع”.

ويضيف “لا أحد يحبّذ الحرب، لكن تلك الأيام كانت أفضل”. ويروي كيف كان يقفل محله فقط عندما يشتد القصف، مضيفا باللهجة المحكية “كان +في ليرات+ والناس مرتاحون”. ويسأل بغضب “هل حلال أن يأخذوا أموال الناس الذين وضعوا جنى عمرهم وتعويضهم (في البنوك) ليكون في إمكانهم أن يعيشوا بكرامة؟”.

وبسبب الأزمة الاقتصادية الخانقة، فرضت السلطات على البنوك منذ 2019 قيودا مشددة جعلت المودعين عاجزين عن التصرّف بأموالهم خصوصا بالدولار، بينما فقدت الودائع بالليرة قيمتها.

وفي منطقة رأس بيروت، يقصد زبائن قليلون محل سمير حداد (83 عاما) المتواضع لإصلاح آلات كهربائية، بعدما كان أربعة موظفين يعملون لديه خلال الحرب في صالة عرض أنيقة. وتغلبه دموعه ويشهق بالبكاء عندما يتذكر “أيام العز” في بيروت. ويقول “الوضع اليوم قاس جدا.. أصلّي لربّي أن يحمي البلد إلى أن يتحرك ضمير” المسؤولين.

7