لا يمكن استبعاد بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي

الثلاثاء 2017/01/24

لم يقدم قرار بريطانيا طلب الانفصال الكامل عن الاتحاد الأوروبي أي جديد، بعد أن أجبر زعماء الاتحاد الأوروبي الحكومة البريطانية على طلب الطلاق التام، حين رفضوا أي مساومة على حرية دخول السوق الأوروبية دون السماح بحرية التنقل والعمل.

الآن فقط بدأت مرحلة تحديد مستقبل بريطانيا، التي لا يمكن استبعاد بقائها في الاتحاد الأوروبي حين تكتشف تفاصيل الثمن الباهظ الذي عليها أن تدفعه في مخاض الانفصال المؤلم.

لم يكن أحد يستطيع أن يفعل سوى ما أقدمت عليه رئيسة الوزراء تيريزا ماي، لأن أي كلمة زائدة يمكن أن تشعل العنف في شوارع بريطانيا، ولم يكن أمامها سوى طلب الطلاق بانتظار التفاعلات التي ستحدث بعد ذلك وتمهد الطريق لتقرير مصير البلاد.

ليس أمام أي رئيس للوزراء في بريطانيا، مهما كان متحمّسا للبقاء في الاتحاد الأوروبي، أن يفعل سوى ما فعلته ماي، وستنتظر الطبقة السياسية تحولات الرأي العام حين يعرف تفاصيل الثمن الباهظ للانفصال.

بدأت الآن رحلة معرفة ثمن البريكست. وستتبلور خطط انفصال أسكتلندا وأيرلندا الشمالية عن المملكة المتحدة، وستعلن الآلاف من الشركات عن تعديل خططها الاستثمارية في بريطانيا.

وبدأت البنوك مثل أتش.أس.بي.سي وغولدمان ساكس وجيه.بي مورغن وباركليز ويو.بي.أس بإعلان خطط نقل الوظائف إلى داخل الاتحاد الأوروبي، وسوف تتسع تفاصيل هجرتها عن بريطانيا خلال الأسابيع والأشهر المقبلة.

الطريق أصبح مفتوحا لتفعيل المادة 50 من ميثاق الاتحاد الأوروبي. وقد يتم ذلك قبل موعد نهاية مارس، بل ربما هذا الأسبوع، لأنه لم يعد هناك ما تنتظره لندن بعد أن أغلق الاتحاد الأوروبي أبوابه.

سنرى تقلبات الرأي العام حين تقترب أسكتلندا من الانفصال، والتي تبدو الأقرب للتحرك لإجراء استفتاء جديد ستكون نتيجته مؤكدة لصالح الانفصال عن المملكة المتحدة.

بل إن أيرلندا الشمالية قد تكون أقرب منها إلى الانفصال، لأن الكاثوليك الذين يشكلون 45 بالمئة من سكانها، هم من الأساس ضد البقاء في بريطانيا، ولن يحتاج الأمر سوى إلى 5 بالمئة من البروتستانت المتحمسين للبقاء في الاتحاد الأوروبي لحدوث الانقلاب في الرأي العام.

من المفيد أن نذكر أن اتفاقية السلام في أيرلندا الشمالية، منحت سكانها حق الحصول على جوازي بريطانيا وجمهورية أيرلندا. وبالفعل يملك جميع الكاثوليك جوازات أيرلندية، لكن صدمة البريكست دفعت أعدادا كبيرة من البروتستانت لطلب جواز جمهورية أيرلندا، وهو أمر لم يخطر ببال قبل البريكست.

وقد يتبع انفصال أسكتلندا وأيرلندا الشمالية تململ ويلز والمطالبة بالانفصال أيضا، لتبقى لندن عاصمة لإنكلترا فقط، لأن الحياة في جبل طارق ستتوقف إذا تم قطع اتصالاتها مع إسبانيا.

كما سيكون لإعلان خطط الشركات في الأشهر المقبلة تداعيات كبيرة على النشاط الاقتصادي ومستويات البطالة وسعر صرف الجنيه الإسترليني، وبالتالي على حماس مؤيدي الانفصال.

ويمكن اختزال تبعات ذلك في مثال العاصمة لندن، المرشحة لفقدان المئات من الوظائف المباشرة في حي المال، وأكثر منها من الوظائف غير المباشرة المرتبطة بتلك الطبقة من المصرفيين ذوي الرواتب المرتفعة.

سيؤدي موت حي المال إلى أزمة اقتصادية طاحنة في لندن، من بين أوجهها، خلو ما قـد يصل إلى مليون وحدة عقارية من المكاتب والوحدات السكنية، لتتحول أحياء بكاملها إلى مدن أشباح، وسيتبع ذلك حتما انهيار غير مسبوق في أسعار العقارات.

ستذهب بعد ذلك مؤسسات الأبحاث لإجراء استطلاعات لآراء سكان المناطق التي صوتت بأغلبية كبيرة لصالح الانفصال، لمعرفة آرائهم بعد أن مستهم نيران آلام الطلاق عن السوق الأوروبية.

الآن فقط بدأ رحلة البريكست والتحديق في تفاصيل الخيارات والثمن الذي يتوجب على بريطانيا دفعه مقال الانفصال عن الاتحاد الأوروبي.

من الواضح أن زعماء دول الاتحاد لن يتزحزحوا عن مواقفهم ولن يقدموا لبريطانيا أية تنازلات، حتى لو كان ذلك يضر بالاقتصاد الأوروبي، وستكون بروكسل مجبرة على معاقبة لندن لكي تكون عبرة لجميع الانفصاليين في بلدان الاتحاد الأخرى.

وقد حاولت بريطانيا طوال الأشهر الماضية مناقشة خيارات الانفصال مع بروكسل، لكنها واجهت إصرارا أوروبيا على أن عضوية الاتحاد لا يمكن تجزئتها، وأن لندن لا يمكن أن تختار ما يناسبها.

تدرك بروكسل تماما أن خروج بريطانيا بيسر وسهولة دون التعرض لكارثة اقتصادية، سيؤدي إلى تفكك الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، بل وتمتد آثاره إلى جميع الاقتصاد العالمي.

يمكن باختصار شديد القول إن 52 بالمئة من الغاضبين والهامشيين والعنصريين من سكان بريطانيا، نفذوا عملية انتحارية ستقتل إن تم تنفيذها، وحدة المملكة المتحدة وتدمر الاقتصاد البريطاني وتلحق ضررا بالغا بالاتحاد الأوروبي والاقتصاد العالمي.

الآن ستتبلور جميع تلك الملفات وتلقي بثقلها على الرأي العام البريطاني، الذي من المرجح أن يشهد تغييرات كبيرة، قد تسمح في نهاية العام الحالي، لأعضاء البرلمان المؤيدين بأغلبية ساحقة للبقاء في الاتحاد الأوروبي، بالتحرش بملف التراجع عن نتائج الاستفتاء.

مهما كانت التحولات فإن رئيسة الوزراء لا تملك رصيدا سياسيا يسمح لها بجر بريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، وسيغلي المـرجل ليصل في النهاية إلى انتخابات عامة تكون بمثابة استفتاء ثان. وستكون النتيجة المرجحة البقاء في الاتحاد الأوروبي.

كاتب عراقي

10