لا وجود لعلمانية واحدة يمكن أن تشكل مرجعية عامة ومطلقة

جاء الحوار الذي أجراه الباحث الجزائري مولود علاك مع المفكر العربي صادق جلال العظم، منسجما مع منطق السرد التاريخي، حيث تحدث المفكر العظم عن الرجات التي أحدثها كتابه “نقد الفكر الديني” (1969)، في الوسط الثقافي العربي زمن النكبة أو بتعبيره المخصوص “النكسة”.
وهنا يبدأ العظم في تشغيل آلة التحليل اللغوي، حيث اكتشف أن الأنظمة في تلك المرحلة اعتمدت على آلية اللعب بالكلمات، فقد كررت دون انقطاع مصطلح النكبة ولم تكترث على الإطلاق بلفظة النكسة، لأن النكبة ذات حمولة طبيعية، وكأن ما جرى على الساحة العربية وفي سياق العداء مع إسرائيل هو أمر طبيعي، في حين أن النكسة هي اللفظ المناسب للحدث من ناحية المجرى الإنساني، لكي ننطلق في تعبيد رؤية معرفية مبنية على ما هو تاريخي، بعيدا عن القراءات ذات البعد السحري والخرافي، وهي الثغرة التي تسلل منها الفكر الديني، وكان من منظوره الخاص نوع من الارتكاس المرضي، وهي صورة صادقة عن العدمية التي زارت ربوعنا بعد نكسة 1967.
◄ صادق جلال العظم يمثل جيلا من المفكرين العرب الذين زاوجوا بين الفكر والنضال، ولم يتخل يوما عن قناعاته الفكرية
وتعلة ذلك أن الفراغ الذي تولّد من رحم الهزيمة هو الذي دفع بالفرد العربي إلى الارتماء في أحضان التفكير الديني، حيث القراءات السريعة والسهلة والتي ترتبط معرفيا بعلل خارقة وخارج الرؤية التاريخية، وبالتالي فنحن أمام ذهنية سلمت نفسها للمنظورية الدينية وقدمت استقالتها من التاريخ البشري الحي.
لم يكن الحوار وخاصة في مساره العام خارج الأطر الفكرية التي خمّن فيها العظم، حيث بقي وفيا لمنابع رؤيته، إذ ينظر إلى الدين من زاوية علمانية محضة، بحيث يكون فينا الدين بكل تشكلاته سلوكا فرديا يمارس على مستوى الحياة الشخصية، وبمجرد أن يلج عالم الحياة العامة يترك المعطف الديني في المنزل، على حد توصيفه الممتاز لهذه العلاقة، وبصورة أدق، الرؤية الدينية، هي المسؤولة عن هزائمنا التي لا تريد أن تنتهي، ممّا يدل على أن صادق جلال العظم يبتغي من هذا التوجه تعزيز مكانة العلمانية في تضاعيف الثقافة العربية من أجل أن تكون البديل الحقيقي للرؤية الدينية بطابعها السحري والخرافي.
والتركيز على المآلات الكارثية لهذا المسار، يعني عنده أن الدرب الآمن للخروج من حمأة التخلف هو المشي في مسار العلمانية، بحسبانها الحل الأمثل لمشكلاتنا الحضارية، لأن الغرب التاريخي في نظره لم يصبح حداثيا بهذه الصورة التي نراها عليه، إلا عندما قطع مع الذهنية الكنسية والتمس طريقه في ممكنات بشرية مثل العقل، الإنسان، الحق الطبيعي، النقد، العمل، تسخير الطبيعة لصالحه، الحرية الفردية، الديمقراطية، الدولة المدنية.
وعلى أساس ذلك، وبالرغم من أن العلمانية قد حققت منجزات لا يمكن لأيّ عاقل أن ينكرها، إلا أن هذا التقديس لا يعني إهمال البعد التاريخي، بكونها نتاجا تاريخيا منخرطا بالضرورة في مقتضيات متعددة مثل الأفق الكنسي الكاثوليكي المنغلق على ذاته، وظهور تيار فكري كانت له المقدرة على التبشير بإنسان غربي جديد، وأي إغفال لهذا الشرط التاريخي هو إنكار لرؤيته في حد ذاتها، فالتوجه العلماني يدعو دوما إلى الاحتكام لمنطق التاريخ، وعندما نأتي إلى مسألة نقل الفكرة الغربية من محضنها الأصلي إلى الفضاء العربي، يقوم بتجاهل هذا الأمر بدعوى أن هناك إنسانية مشتركة.
إن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، وهو التعاطي مع المعطى التاريخي برؤية متقلبة، بل يكون صادق جلال العظم قد تحدث عن المنجز الفكري للمفكر العربي إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، بطريقة تدل على أن سعيد يكون قد مارس استشراقا معكوسا أو مضاداً، ويكون بالتالي قد انضم إلى المجموعة التي لم تدرك بشكل فلسفي المعنى الحقيقي الذي أراد إدوارد سعيد إنجازه من خلال كتابه “الاستشراق”، فهو لا يهدف إلى البحث عن شرق حقيقي أو الدفاع عن الشرق، وإنما البحث في مفهوم الشرق الذي تشكل داخل الرؤية الغربية، وفي نصوصها الكبرى والمتعددة، لأن النص هو الذي يصنع الواقع وليس العكس.
وقد استند إلى جهاز مفاهيمي ثري أخذه عن ميشال فوكو، نيتشة، دلتاي، فيكو، إريش أورباخ، ومنه لا يجب أن تكون منازلة إدوارد سعيد على مستوى الواقع الاستشراقي وإنما على مستوى النص الاستشراقي بالنظر إلى كونه خطابا بالمعنى الفوكوي الذي يحتكم إلى مستلزمات معرفية خالصة، وهو ذات المطب الذي وقع فيه المفكر محمد أركون، حيث حاكم منجز إدوارد سعيد انطلاقا من وجود استشراق صديق مثل الاستشراق الألماني مثلا، وهي مساءلة لم ينشغل بها إدوارد سعيد، لأنه كان يشتغل على مستوى الخطاب ولم يحد عن هذا الخط المعرفي. ومن المعهود في التوجهات العلمانية أنها لا تتحدث بلغة المتعدد داخل الفكر الغربي المعاصر، فمن حيث الواقع المعرفي لا توجد علمانية واحدة يمكن أن تشكل مرجعية عامة ومطلقة، وإنما هناك علمانيات مختلفة من جهة التشكل التاريخي ومن ناحية العلاقة بينها وبين المجال الديني، فقد كانت العلمانية اليعقوبية متطرفة في فرنسا، بينما كانت العلمانية في هولندا وألمانيا ذات توجه معتدل، لأن الأفق المتواجد فيها هو الأفق البروتستانتي. ومن هنا كان لزاما على صادق جلال العظم أن يتجنب التعميم، لأن فيه الكثير من التجني على المناخ التاريخي لمفهوم العلمانية الغربية.
نود فقط أن نشير إلى أهمية الحوار مع مفكر مثل صادق جلال العظم، فهو يمثل جيلا من المفكرين العرب الذين زاوجوا بين الفكر والنضال، ولم يتخل يوما عن قناعاته الفكرية، وبقي ملتزما على الأقل برؤيته الإنسانية ومحافظا على الأفكار التي اعتقد أنها قادرة على إخراج العرب من تخلفهم، مؤمنا بأن التيار الديني يعرقل المسار الحضاري لأمة العرب في الزمن القادم.
• ينشر المقال بالاتفاق مع مجلة "الجديد" الثقافية الشهرية اللندنية