"لا نسبح في النهر مرتين" رواية عن تاريخ تونس

النفيضة (تونس) – انتظم أخيرا في المتحف الأثري بمدينة النفيضة، جنوب العاصمة التونسية، لقاء مع الكاتب التونسي حسونة المصباحي، احتفاء بروايته الجديدة “لا نسبح في النهر مرتين”، الصادرة حديثا عن دار الآداب ببيروت.
وبعد كلمة الترحيب به والتي ألقاها الكاتب والشاعر سفيان رجب، أشار المصباحي إلى أنه خطّط منذ البداية أن تكون روايته المذكورة “مغامرة في السرد”، متجنبا تكرار نفسه، ومحاولا أن يقدم ما يقنع القراء والنقاد بأن سر الإبداع الحقيقي هو أن يحرص الكاتب على أن يؤكد دوما أنه قادر على أن يأتي بما هو جديد سواء على مستوى اللغة أو على مستوى الأساليب التقنية، أو على مستوى المضامين.
وأضاف المصباحي قائلا إن روايته المذكورة “طُبخَت على نار هادئة” إذ أنه ظل ينتظر تطورات الأحداث التي أعقبت انهيار نظام بن علي، ملاحقا تبعاتها وانعكاساتها على الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية وغيرها، ومتنقلا بين مختلف المناطق لمعاينة تأثيراتها على الناس بمختلف فئاتهم ومشاربهم.
ولم يشرع المصباحي في الكتابة عما رصده من أحداث إلاّ حين أصبح متيقنا من أنه قادر على أن يلتقط تفاصيل تلك الأحداث، وبسط تعقيداتها من خلال “مغامرته السردية الجديدة”.
وقد اختار المصباحي ثلاث شخصيات لتروي كل واحدة منها، ومن زاويتها الخاصة الأحداث التي شهدتها البلاد بعد انهيار نظام بن علي في الرابع عشر من شهر يناير 2011.
ويسرد الكاتب أيضا أحداثا أخرى تعود إلى فترات مختلفة من التاريخ التونسي المعاصر سواء قبل استقلال البلاد أو بعده مثل حرب الجلاء عن مدينة بنزرت التي خاضها التونسيون ضد الاستعمار الفرنسي، وهزيمة 67، والعديد من الأحداث الأخرى.
كما اختار المصباحي أن تكون الشخصيات الثلاث مقيمة في “المدينة البحرية” التي قد تكون بنزرت الواقعة في أقصى شمال البلاد. أما الرابط الوحيد بينها فثقافي وفكري فقط.
سليم هو إحدى الشخصيات الثلاث وهو موظف في شركة للتأمين في “المدينة البحرية” التي قدم إليها بعد أن عمل سنوات طويلة في العاصمة. وهو يعيش حياة هادئة مع زوجته الجميلة وابنته الصغيرة البالغة من العمر ثمانية أعوام.
وعن طريق زوجته التي تُدرّس اللغة الإنجليزية، اكتشف الأدب الأميركي، وفتن به ليصبح قارئا نهما لروايات كثيرة، خصوصا روايات كارسن ماك كلرس، تلك الكاتبة الجنوبية التي أبدعت أعمالا هامة في عمرها القصير مثل “أنشودة المقهى الحزين”.
لكن الحياة السعيدة والهادئة التي يعيشها سليم سرعان ما تتعكر بعد أن غزت البلاد جحافل الأصوليين المتطرفين ناشرة العنف والفوضى والخوف في كل مكان. وشيئا فشيئا تتحول حياة سليم إلى سلسلة من الكوابيس المرعبة، فتتعفن علاقته بزوجته وبابنته وزملائه في العمل، وبأصدقائه أيضا.
وتزداد محنته سوءا بعد أن يعجز عن استعادة توازنه النفسي، ويتحول إلى كائن غريب يخشاه أقرب الناس إليه، ومنه تهرب ابنته الصغيرة.
وفي النهاية يسقط سليم في ليل الجنون بعد أن يهجم على زوجته وابنته الصغيرة بسكين مهددا بذبحهما.
وعزيز هو الشخصية الثانية، وهو عجوز بشع تقاعد عن العمل في البريد لعيش وحدة الشيخوخة مرارتها. وهو ابن المدينة البحرية، فيها عاش طفولة شقية إذ أن والده أهمله وهو رضيع. أما والدته فقد توفيت بمرض غريب وهو في الثامنة من عمره ليجد نفسه وحيدا في مدينة قاسية.
وهو يروي لنا بطريقته المحايدة والساخرة فصولا من حياته المعذبة، متطرقا إلى علاقته بسيدة فرنسية رفضت مغادرة المدينة البحرية بعدما غادرها الجيش الفرنسي، وبمراد الذي يقاسمه اليتم والتشرد، وبسليم الذي تعرف عليه عند قدومه إلى المدينة البحرية لتتوطد علاقته به بسبب حبهما للكتب وللأفلام.
كما يروي لنا عزيز بطريقته الخاصة تبعات أحداث حرب الجلاء عن بنزرت، وانعكاسات هذه الحرب على سكان المدينة. أما عمران فهو الشخصية الثالثة. ولا ينكر حسونة المصباحي التشابه الكبير بينه وبين المفكر التونسي “المنشق” العفيف الأخضر الذي ربطته به علاقة فكرية وطيدة امتدت إلى أزيد من ثلاثين سنة.
ومثل العفيف الأخضر درس عمران في جامع الزيتونة، وتمرد على شيوخه المتزمتين، وعرف السجن في فترة المقاومة ضد الاستعمار في مطلع الخمسينات من القرن الماضي.
وبعد الاستقلال اصطدم بنظام بورقيبة رغم مناصرته لهذا الأخير خلال صراعه مع خصمه صالح بن يوسف فهاجر إلى باريس ليبدأ رحلة طويلة قادته إلى الجزائر في أول استقلالها، وإلى برلين الشرقية ليكتشف الجوانب المظلمة لدى الأنظمة الشيوعية، ثم إلى بيروت ليناصر الثورة الفلسطينية، لكنه سرعان ما يصاب بخيبة مرة فيترك بيروت قبيل الحرب الأهلية ليعود إلى باريس، وفيها يتحد مع نفسه، متخلصا من أوهامه الثورية، ومن الأيديولوجيات المدمرة، منصرفا للتأليف والكتابة. وهو يأتي إلى المدينة البحرية مرة في السنة لقضاء أسابيع فيها ولا علاقة له سوى بسليم وعزيز. وعبر عمران نحن نتعرف على تقلبات المثقف العربي، وخيباته، وأحلامه في فترات مختلفة من التاريخ التونسي والعربي.